نحو سعادة مستدامة
أبدأ مقالتي باقتباس لشاعر السعادة إيليا أبو ماضي وهو أحد شعراء المهجر إذ يقول وأقتبس ”كن جميلًا ترى الوجود جميلًا“. أما مصطفى لطفي المنفلوطي وهو الأديب والشاعر المصري الذي دافع عن المثل العليا ونَقَدَ الرذائل في الكثير من مقالاته وكتب عن السعادة بإسهاب وأنا هنا أقتبس وأوجز ما قاله في أحد أطروحاته ”إذا كان صحيحًا ما يتحدث به الناس من سعادة الحياة وطيبها، وغبطتها ونعيمها، فسعادتي فيها أن أعثر في طريقي، في يوم من أيام حياتي، بصديق يصدقني الود وأصدقه، شريف القلب فلا يحمل حقدًا، شريف اللسان فلا يكذب ولا ينم ولا يلم بعرض ولا ينطق بهجر، شريف الحب فلا يحب غير الفضيلة ولا يبغض غير الرذيلة، هذه هي السعادة التي أتمناها ولكني لا أراها“.
إذا كنت لا تزال غير قادر على أن تظهر لنفسك والآخرين على أنك شخصية مستقلة تمتلك الحق في أن تقرر طريقة العيش التي تهواها وترى فيها سعادتها، فمن أين ستأتي لك الجرأة لتغيير الكثير من المفاهيم التي من الممكن أن تُحوّل نظرتك للحياة وأنك وُجدت لتَسْعَدَ وَتُسْعد، لا أن تُحَوّل حياتك وحياة الآخرين إلى كابوس لا يُطاق.
في عالم يعج بالحركة ويدعو إلى المزيد منها لتحقيق أكبر قدر من الإنتاجية والدخل، لم يعد الكثير من الناس لديهم فرصة لينزووا بأنفسهم ولو لبعض الوقت للسكون وإراحة عقولهم وتجديد أرواحهم من صخب الحياة العصرية وضجيجها. صار الواحد بحاجة لأن يختلس القليل من الدقائق لنفسه ليشهد تأثيرها على مجريات حياته اليومية ومدى فاعليتها في إدخال البهجة عليه والشعور بشيء من الرفاهية التي لم يعد تحقيقها أمرًا يسيرا.
كل منا يعيش اللحظة، إلا أن هناك فرق شاسع بين أن تعيش اللحظة بمشاعر متباينة أو أن تتقبل اللحظة وتتوصل على الفور إلى الشعور بالراحة والسلام الداخلي. هذا الأمر يتطلب حضورًا ذهنيًا وحسيًا دقيقًا وصائبًا، مما يُعطي لطاقتك العنان لتُحدث التغييرات اللازمة للوصول إلى نتائج إيجابية مختلفة، غير تلك التي تعودت عليها. عندما تُمارس العيش الحقيقي للّحظة فإن كل جزء من الثانية يعني لك الكثير وأنه جزءٌ مهمٌ من عمرك المديد لا يجب إهماله أو التفريط فيه، بل عليك أن تَسْعَد به وأن تمتلك الإرادة بأنك جدير بأن تعيش الحياة بكامل جزئياتها وتنوعها بذوق رفيع ومتميز.
عندما يُضيّع الكثير من الناس معظم أوقاتهم وأيام عمرهم في التأمل في الماضي وما جرى فيه من أحداث، أو التفكير في المستقبل وما يكتنفه من مفاجئات، فهذا من طبيعته أن يُبعدهم عن الإرتباط بالحياة. لا يخفى على أحد بأن الحياة هي تعبير عن اللحظة الآنية التي نعيشها. عيشنا الحقيقي للحظة هو أن نشعر بكل ما تعنيه هذه الجزئية الصغيرة من الوقت من جمال ورقة وطعم وملمس وبكل ما وهبنا إياه الخالق من أعضاء حسية ومشاعر معنوية وعلى امتداد يومنا. عنايتنا الخاصة بالوقت الآني وتثمينه على أنه من بين أثمن ما نملك، يمنحنا القدرة والإمكانية من أن نجعل أيامنا أكثر اشراقًا وسعادتنا أكثر واقعية واستدامة.
حتى نتمكن من تحقيق أكبر قدر من سلامنا الداخلي وراحتنا النفسية، علينا أن نمتلك القدرة على تحويل تلك المشاعر التي تغذينا وتملؤنا بالخوف إلى أخرى تدغدغنا بالأمان والمحبة. علينا أن نعقد العزم على استبدال الضغينة بالغفران وأن لا نتطرف في قضية الانزعاج لأتفه الأسباب. لتكن الصورة الكبرى للحياة لدينا حاضرة في جميع أوقاتنا وأن لا نسمح لها بأن تفارق أذهاننا. وأخيرًا علينا أن لا ننسى بأن أهم علاقة يمكننا تحقيقها مع أي أحد، بعد علاقتنا بالخالق عز وجل، هي علاقتنا مع ذواتنا. كما أننا حتى نتمكن من أن نحب أي أحد، علينا أن نحقق حبنا لأنفسنا، بشرط أن لا نغالي في ذلك الحب. تفانينا في أن نتعلّم وأن نخطو هذه الخطوات ونداوم عليها، من شأنه أن يحوّل مفهوم السعادة لدينا الى أبعد من كونها ومضات آنية من الفرح، إلى سعادة مستدامة.