آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

وترجّل الفارس

أفنان المهدي

حينما يترجّل الشهداء عن صهوة إنجازهم، فيدرّعون رداء الشهادة معلنين أنه قد حان أوان المضي، تُذهل الألباب، وتُدهش النهى، لا لأنهم فقط قد مضوا!

بل، لأنهم يأبون الرحيل إلا بضجيج، بصوت عالٍ يكسر حدّة الصمت والسكون.

فرحيلهم لا يكون كسائر الرحيل، ولا عروج أرواحهم، كباقي العروج!

وهم بين ظهرانينا، نلقاهم يجوبون الأزقة، يبثّون العلم، يبنون الأفراد، يقرأون، يكتبون، يربّون الكفاءات، يصنعون الإنجاز، يبادرون، يشاركون، يفكرون، يخططون، يبدعون، في مشوار سريع، كالبرق يخطف الأبصار، لهاث واضح، بين أسرة وعائلة ومجتمع تتعجب منه الأفئدة، لم يصنعون كل هذا؟

ما الذي يرومونه؟!

تجيبنا خاتمتهم المفجعة المرّة: استشعروا المسؤولية، وأخلصوا، واتكلوا وتيقنوا المصير السعيد، فركضوا في جري وسباق مع الزمن، ليعيشوا بعد أن يترجلوا!

هكذا كان الأستاذ الأمين، أمين، كما عرفته عن قرب، متعاوناً، يمد يده البيضاء بما يتمكّن، صاحب حسّ عالٍ في تحمل المسؤولية، عمله لربّه ولرفعة مجتمعه، لأي طرف كان، لم يكن متحزباً لتيار أو خط معين، أو مؤسسة معينة، ينطلق من واقع علمه ومعرفته وهو العالم، وإن كان بلا عمامة!

عفوي، أريحي، صادق، محب للخير، يتعامل بكل بساطة وتواضع مع الجميع.

هذه بعض من سجاياه، التي عرفتها شخصياً، لمستها، من خلال تتلمذي مع ثلة من الأخوات الطيبات الطموحات، اللاتي يمثلن خيرة كفاءات هذا المجتمع الطيب، في بداية انطلاقة مشروعنا الثقافي ﴿قطوف دانية رافقنا خطوة بخطوة، يعلّمنا أصول العمل الممنهج وفق خطة واضحة، يسمعنا، يوجّهنا، يشجعنا، يصفق لنا.

من هذا المنطلق، أود تدوين أربع وقفات تأمل:

الوقفة الأولى:

بكل شموخ وعنفوان، ومحبة وافتخار، نعتز جداً بسيرتك المتوهجة، التي بخاتمتك وإن كانت - شنيعة - بالمنظار المادي الدنيوي، إلا أنها بالمنظار الأخروي والمعيار الإلهي، جسر العبور لخلودك، أيها الشهيد الأمين، وبكل جدارة فلك العزة والمجد، ولنا الفخر بأنك منا ونحن منك.

الوقفة الثانية:

حين التأمل في زمان الاستشهاد، وبعين البصيرة، لا البصر فقط، توقيت يشي بما نلته من المرتبة العالية الرفيعة عند خالقك، فقد مُنحت الجائزة والهدية، قبل كل الصائمين، فليلة العيد موعد استلام المنح والجوائز من الباري، إلا أنك أبيت إلا التقدّم لاستلامها قبل الموعد بيومين، فاذكرنا عند ربك يا شهيد.

الوقفة الثالثة:

عمرك الإنجازي الذي فاق عمرك الزمني، ببصماتك الخيّرة، وبنهرك الجاري، يحمّلنا مسؤولية إكمال المسير. نعم، إكمال المسير.

فمسيرة العطاء، لا تتوقف بعروج أشخاصها، هم يمضون لروح وريحان، ويسلمون الراية لنا لإكمال الرسالة، فالمجتمع يحييه أبناؤه الواعون، المقتفون أثر عظمائهم وأبطالهم.

الوقفة الرابعة:

الأرض لا تخلو من جمال، فكما كان الأستاذ الشهيد جميلاً بقلبه وبسلوكه العاكس فكره، وأحلامه وطموحاته المترجمة سعة إطلاعه وتمكّنه، وكفاءته المتميزة، فثمة جمالات أخرى، في طيّات هذا المجتمع الزاخر بالجواهر المكنونة، والدرر المخفية، التي لا تحتاج إلا لتعب وجهد بسيط منا، لنغدو كالأمم الحية، نكتشفها ونلتفّ حولها، حال وجودها وحياتها، لا كالأمم الميتة، التي تفرّط في عظمائها طالما كانوا بين ظهرانيها، وتكرمهم حين أفول شمسهم!

السلام عليك حين كنت بيننا، باسماً، عاملاً، وحين مصابك حرق القلوب ونغّص عليها بهجة العيد، ونحتسب ذلك عند الله، فنعم الحكم الله، والخصيم محمد وعلي وآلهما، وحين تُبعث حياً مع الشهداء والصديقين.