النقلة الحتمية
مع تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، أطلق عدد من الأكاديميين مصطلح «انفجار الهوية» لوصف التمرد الجمعي للقوميات التي خضعت منذ الحرب العالمية لهيمنة موسكو. قدر أولئك الباحثون أن معظم الدول الكبرى سوف تتقلص إلى كيانات قائمة على أساس قومي أو عرقي.
لم تصدق تلك التوقعات، لكن الذي حصل في الواقع هو ما توقعه مانويل كاستلز، عالم الاجتماع الإسباني، الذي رأى أن ثورة الاتصالات تقود العالم إلى نوع من الهوية الموحدة. عرض كاستلز هذه الفكرة في 1989، لكنها لم تثر اهتماما يذكر حتى نهاية العقد التالي. في كتابيه «مجتمع الشبكات» و«قوة الهوية» اهتم كاستلز بانعكاسات التواصل العابر للحدود على السلوك اليومي للأفراد والمجتمعات. وقدم في هذا الإطار تصوراً متيناً عن هوية معولمة، تتشكل في العالم الافتراضي، لكنها تعيد تكوين نفسها في العالم الواقعي، على نحو يتعارض - في معظم الأحيان - مع المكونات المحلية الموروثة.
والحقيقة أن نظرية كاستلز تذهب إلى مدى أبعد؛ فهو يقول: إن ما كنا نسميه «العالم المجازي»، لم يعد مجازياً على الإطلاق. فقد بات عالماً حقيقياً، وهذا واضح في مجال التجارة والثقافة، وهو سيؤثر في نهاية المطاف على مفهوم ومضمون الدولة.
لا تعمل الدولة في الفراغ، حسب رؤية كاستلز؛ فهي تكثيف للعلاقات والأفكار والأفعال التي تجري ضمن نطاقها الحيوي، أي الأرض التي تبسط عليها سيادتها. ومع تغير ثقافات البشر وعلاقاتهم، وتغير الاقتصاد ونظم التبادل ضمن هذا النطاق وعلى امتداد العالم، فإن مفهوم الدولة وفلسفتها وديناميات عملها، ورؤية الناس لها وتعاملهم معها، سوف تتغير هي الأخرى.
ربما يتوجب علينا الانتظار بضع سنوات. لكن الذي سنراه في نهاية المطاف هو هوية فردية - جمعية معولمة... اقتصاد معولم تحركه نظم المعلومات والاتصالات العابرة للحدود، ودولة مضطرة للتناغم مع تحول البنية الاجتماعية التي تشكل مجالها الحيوي.
ما الذي يهمنا من هذا الحديث؟
الواقع أن المجتمعات العربية عموماً، ومجتمعات الخليج بصورة أخص، هي أكثر من ينطبق عليها التقدير السابق. الإحصاءات الخاصة بنفوذ الإنترنت واستعمال الهواتف الذكية، والتوسع السريع للتجارة الإلكترونية، والتعامل على الفضاء المجازي، تؤكد الحقيقة التي تنبأ بها كاستلز، أي تحول شبكة الإنترنت من وسيط لتبادل الأفكار، إلى مجال لإعادة صياغة الحياة اليومية.
نعلم أن أكثر من نصف الأخبار المتداولة في العالم العربي اليوم تدور على الإنترنت، وأن التجارة الإلكترونية تنمو بنسبة لا تقل عن 6 في المائة سنويا. ونعلم أن جميع الأجهزة الحكومية والمنظمات التجارية تسعى لنقل ما تستطيع من عملياتها إلى الفضاء الافتراضي. هذا وغيره سيحول الإنترنت إلى مجال حيوي يومي لجميع الناس؛ صغارا وكبارا. وحين يسبح الناس في الفضاء المجازي، فإنهم لا يؤدون أعمالهم فقط، بل يتعلمون أشياء جديدة ومثيرة. وفي هذا السياق يعيدون تشكيل ثقافاتهم وعلاقاتهم، وبالتالي هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم والعالم.
بالنسبة للمجتمعات العربية، فإن هذا التطور يستدعي حسماً سريعاً لسؤال: من نحن وماذا نريد وكيف نفهم العالم وكيف نتعامل معه؟
في وقت ما، قد يكون قريباً جداً، سنجد أنفسنا مختلفة عن أنفسنا التي اعتدناها، وسنضطر للتكيف مع أنماط حياة غير التي ورثناها أو تعلمناها. ربما نحب هذا التحول أو نبغضه، لكنه سيحدث على أي حال.