حوار الثقافات
الحوار والتفاعل بين الحضارات والثقافات المختلفة يحتاج إلى ندية وتكافؤ حضاري، ولن يتحقق ذلك دون فصم علاقة التبعية البنيوية الشاملة، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المعتمدة والمتمحورة على الذات في المقام الأول، وهو ما استطاعت تجارب تنموية ناجحة من تحقيقه كالتجربة اليابانية والتجربة الصينية.
وفي هذا الإطار من الضروري الإشارة إلى زيف اصطناع التعارضات والانقسامات والمقابلات الثنائية العقيمة على غرار القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الوافد والمحلي، الوطني والقومي، الأنا والآخر. فهي مواجهات ملتبسة وخاسرة من شأنها إحداث مزيد من البلبلة والتشويش والإعاقات، ولن تعمق رؤيتنا لجذر الأزمة الطاحنة والشاملة التي يعيشها العالم العربي، والتي تعود في جانب منها إلى الفشل الذريع في التوليف والتركيب الإبداعي للعناصر المكونة للثقافة العربية المعاصرة بإرثها وتراثها وإنجازاتها وميراث وإنجازات الثقافة والحضارة الإنسانية ككل. ومن الواضح أن ذلك يرتبط بالعمق بالمعضلات الحقيقية التي تواجهها الدولة العربية «الحديثة» والشعوب العربية قاطبة، خصوصا في ظل العولمة التي تتسم بكونية الثقافة التي هي منجز إنساني مشترك لا يمكن تجاهله أو القفز عليه مع التأكيد على الجوانب المتناقضة لهذه العملية الموضوعية التي تتسم بميزتين أساسيتين هما عملية التركيب والهيمنة الثقافية التي تمارسها دول المركز «الشمال» من جهة وعملية التفكيك والتهميش الثقافي التي تعاني منها دول الأطراف «الجنوب» من جهة أخرى.
حيث تستهدف مراكز الهيمنة والسيطرة العالمية وبالتحديد الولايات المتحدة فرض ثقافتها «الاستهلاكية» من خلال تهجين وطمس وإلغاء مقومات الثقافات الوطنية الأخرى مستندة في ذلك إلى تفوقها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية وتحكمها في مجال التكنولوجيا الرفيعة والاتصال والتوصيل وعبر احتكارها لأجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ولشركات الدعاية والإعلام والفنون «أفلام، موسيقى، أزياء». وتجرى عملية تجنيس «أمركة» للعالم بأسره على المستوى الثقافي وأسلوب الحياة والمعيشة والذائقة من خلال رموز مبهرة، ماكدونالد وكنج برجر وببيسي كولا وسراويل الجينز ومادونا ورامبو... إلخ.
بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب وليس مستغربا أن تثير هذه النزعة الثقافية «الأمركة» للهيمنة ردود فعل لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان والمراكز العالمية الأخرى مثل اليابان وأوروبا والصين وغيرها من البلدان.
غير أنه يجب ألا نكتفي بالنظر إلى نصف الكأس الفارغ فقط، بل يجب أن ننظر إلى النصف الآخر الممتلئ، فالحضارة والثقافة الغربية عموما أضافت إلى البشرية منجزات حضارية تمثل ذروة ما توصلت إليه الإنسانية على امتداد تاريخها الطويل. فالمنجزات العلمية والصناعية والثقافية وبلورة مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية تشكل جوهرا وملمحا أساسيا للحضارة الغربية، دون أن نغفل بالطبع وجهها القبيح المتمثل بعهود السيطرة الاستعمارية والإمبريالية ونهب مصالح وخبرات الشعوب والمجتمعات في العالم وخصوصا في بلدان العالم الثالث والتي تأخذ الآن أشكالا جديدة في زمن العولمة.
إننا بحاجة إلى البحث عن عوامل استنهاض ثقافي قومي جديد يشكل رافعة لانتشال الوضع العربي من أزمته وترديه، لا بد من ثقافة عربية تتسم بالعقلانية والعلمية والتسامح واحترام الآخر وتقبل الاختلاف والتنوع، والانفتاح على الثقافة العالمية المعاصرة وبما يحافظ على الخصائص والسمات الثقافية والقومية والحضارية الخاصة.
كتب الفيلسوف الألماني فيخته «إن من فقد استقلاله فقد بالتالي إمكانية التأثير في مرور الزمن وتحديد محتواه بكل حرية، لأن من يفقد استقلاله يتطور هو والزمن الذي يعيش فيه تحت ضغط قوة خارجية وهذه القوة هي التي تقرر له قدره وبدءا من تلك اللحظة ليس للإنسان الفاقد استقلاله أي مفهوم عن الزمن».
والسؤال هنا هل للعرب مكان في التاريخ وبالتالي دور في صنع زمنهم أم إن عليهم أن يبقوا متفرجين ومنفصلين وخارج التاريخ والزمن الحقيقي الذي يصنعه الفاعلون في الحياة والواقع في الحاضر والمستقبل.
على صعيد بلادنا لابد من التنويه الى الدور المحوري الذي تمثله «رؤية السعودية» 2030 التي أعدها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي العهد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، والتي تطمح لخلق اقتصاد مزدهر، تنمية متوازنة، ومجتمع حيوي.