آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

علي سر محمد

وديع آل حمّاد

النزعة السجالية والروح العدائية والتطلع إلى الغلبة والمحاولة المستميتة لإفحام الآخر المختلف معي في الرأي والفكرة لا يضفي على المشهد الثقافي الفكري إلا نوعا من المهاترات والحساسيات. وهذا بطبيعة الحال لا يخلق جواً صحياً يستطيع فيه الفرد أن يطرح آرآه بكل أريحية خشية التسقيط والتفسيق والتكفير.

وأنا في هذا المقال أسجل موقفي الرافض لمس كرامات الناس وأعراضهم والحط من شأنهم.

ليس من طبيعتي السجال ولم يعتاد قلمي على الدخول في مساجلات ومناكفات لا تضيف لي أو للآخرين شيئاً، بيد أني وجدت ماغرد به الأخ العزيز دكتور توفيق السيف قد فتح لي نافذة لمقاربة موضوع تغريدته فكراً لا شخصاً، فأحببت أن أطرح ملاحظاتي من باب إثراء الموضوع، لا من باب المناكفة والمساجلة.

وأيضا من منطلق إحساسي بأن الأفكار لاتنقدح إلا بالاختلاف لا بالتطابق والتوافق.

يقول الدكتور السيف: «استمعت البارحة لخطيب محترم يقول أن علياً قال في الليلة التي سبقت ضربته ما معناه هذه هي الليلة التي أخبره عنها رسول الله صلوات الله عليه. فحوى هذا القول أن الرسول علم بليلة قتل ابن عمه وأنه أعلم علياً بها. حين عرضت هذا الخبر الذي يرسل إرسال المسلمات على عقلي، وجدت أنه يناقض صريح القرآن ﴿و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا وماتدري نفس بأي أرض تموت فماذا أصدق قرآن ربي أم قول الخطيب؟».

مع ما قاله الدكتور في تغريدته هذه لي وقفات ثلاث:

  الوقفة الأولى:

تتعلق بالتساؤل الذي طرحه الدكتور: «فماذا أصدق قرآن ربي أم قول الخطيب؟».

في إجابتي على هذا التساؤل سأكون أمام أحد الموقفين لا ثالث لهما، وهما:

  1.   الموقف الابتدائي الساذج القائم على النظرة الأولية، الخالية من التحقيق والتدقيق والتدبر وسأختار الإجابة الأولى: قرآن ربي.
  2.  الموقف التحقيقي التدقيقي: هنا الأمر مختلف عن النمط الأول، إذ سأطرح على نفسي مجموعة من التساؤلات والاستفهامات التي تسعفني على تمحيص تساؤل الكاتب، والإحاطة بمختلف جوانبه، كالأسئلة التالية:

- لماذا عمد الكاتب إلى هذا الحصر؟ وما نوع هذا الحصر؟ وهل هذا الحصر مناسب في محله أم لا؟

ولمعرفة لماذا لجأ الكاتب إلى هذا الأسلوب الحصري علينا الرجوع إلى معنى كلمة «الحصر» قاموسيا، سنجد أن معناها «التضييق».

فإذا عرفنا معنى هذه المفردة يتضح لنا معرفة مراد الكاتب من استخدام هذا الاسلوب الحصري - من منطلق التحليل الدلالي لا من منطلق معرفة دواخل النفوس - هو تضييق الخيارات أمام المسؤول لتكون مناورته في الإجابة عن هذا التساؤل ضيقة «إما أبيض وإما أسود».

قد يشكل علينا البعض ويقول: الدكتور طرح السؤال على عقله وليس على الآخرين.

ونحن بدورنا نسأل هذا المستشكل: على من طرح الدكتور تغريدته؟ سيجيب بأنه طرحها على الآخرين. وبناء على إجابته هذه سنسأله سؤالا آخرا وهو: ماذا تتضمن التغريدة، ألا تتضمن ذلك التساؤل؟ إذا مادامت تتضمن ذلك التساؤل، بات ذلك التساؤل يهم المستمع الموجه له خطاب هذه التغريدة.

وأما بالنسبة لنوع الحصر الذي استخدمه الدكتور، فهو حصر عقلي - من ناحية الشكل -، يدور بين النفي والإثبات. إذ خير الدكتور عقله بين قرآن ربه أم قول الخطيب. فكأنه بهذا التخيير الحصري يوحي للمستمع بأن هناك تلازم واقعي بين صدق القرآن وكذب الخطيب. والحال بأنه لا تلازم واقعي بينهما.

على ضوء ما أوردناه من ملاحظتين على التساؤل السالف، نرى بأن هذا الأسلوب الحصري الذي استخدمه الدكتور ليس في محله، ولا يخدم إلا ما يريد تحصيله من هدف مسبق محدد لديه، وهو نفي علم الغيب عن الرسول ﷺ.

 الوقفة الثانية:

تتعلق بنفي علم الغيب عن الرسول ﷺ.

في بدء هذه الوقفة سأطرح على نفسي بعض التساؤلات البسيطة العفوية، لتأخذ بيدي نحو سبر أغوار التفكير الفلسفي - الذي له مماسة بمسألة البحث - المتمثل في أصالة الوجود.

الوجود حقيقة واحدة متشككة غير متواطئة لها مراتب عديدة، مختلفة ما بينها شدةً وضعفاً وتقدماً وتأخراً وعلةً ومعلولاً وغنىً وفقراً ووجوباً وإمكاناً.

وأقوى مراتب الوجود هو واجب الوجود «الله» وأضعفها المادة الأولى «الهيولي الأول». ومابين أقوى مراتب الوجود وأضعفها العديد من المراتب المختلفة فيما بينها ضعفاً وقوةً، وتسمى بالممكنات. والأفراد الذين يكونون في مرتبة قريبة من واجب الوجود، مصدر الكمالات ونبع الخيرات وفيض العطاءات يتمتعون بقدر أكبر من غيرهم من الكمالات الوجودية بخلاف الأشد قرباً من المادة الأولى القريبة من حافة العدم، لا يحظون بالكمالات الوجودية التي تتمتع بها الفئة القريبة من واجب الوجود.

بعد هذا الإيضاح نطرح التساؤل التالي:

هل ثمة في هذا الكون كائن أقرب إلى واجب الوجود من نبينا الأكرم محمد ﷺ؟

بالطبع لا يوجد، ومادام لا يوجد، فمن الطبيعي الأشد قرباً من مصدر الفيض ومن نبع العطاء والكمال يكون حظه من العطاء والكمالات أكثر من غيره. وعلى هذا الذين يحتلون مكانة القرب من الله من رسل وأنبياء قد أرتضاهم الله بأن أفاض عليهم علم الغيب، وهذا واضح بصريح القرآن: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول».

فهنا نسأل الدكتور: هل نبينا استثناء من الذين ارتضاهم من الرسل الذين أفاض عليهم علم الغيب، وبالتالي بات غير مشمول بهذا الارتضاء والفيض؟

سؤال برسم الجميع.

والنقطة الآخيرة التي ينبغي ألا تفوتنا في هذه الوقفة - إذ هي أساس الموضوع - وهي بأن ما أفاضه الله على رسولنا من علم أفاضه رسولنا على أمير المؤمنين، إذ يقول ﷺ: «علمته علمي واستودعته سري».

ويقول أمير المؤمنين في هذا الصدد: «ما أبقى شيئا يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إلي».

وعندما نقف متأملين في عبارة أمير المؤمنين نجد بأنه طرح قضية إخبار النبي له بعلم الغيب على نحو الموجبة الكلية لا على نحو الموجبة الجزئية. فالواضح منها بأنه ما خطر على قلبه من تساؤلات إلا وأخبره به. ومن الطبيعي والاعتيادي أن يخطر في ذهن الإنسان التساؤلات المتعلقة بالموت: متى سأموت؟ وكيف؟ وفي أي أرض سأموت؟

فإذا كانت مثل هذه التساؤلات طبيعية، فهل أمير المؤمنين استثناء من الاعتياد البشري، لا تخطر على قلبه مثل هذه التساؤلات؟ بالطبع لا

الوقفة الثالثة:

تعارض الآيات النافية لعلم الغيب عن أي أحد غير الله والآيات المثبتة علم الغيب لغير الله:

لا شك أن الآية التي استدل بها الدكتور كشاهد على إثبات مدعاه صريحة، وهناك أيضا آيات عديدة تشاطرها المضمون، بيد أن هناك آيات آخرى في مقابلها تنفي حصرية علم الغيب بالله وتثبت علم الغيب لغير الله، كمثل هذه الآية:

﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران: 49

من هنا نجد أنفسنا بين آيات تقابل بعضها بعضاً إلى حد الممانعة - بالنظرة الأولية - فماذا نصنع؟ هل نسقط القسمين من الآيات من الاستدلال، وجميعها قطعية الدلالة والصدور أم نبحث لها عن مخرج؟ بالطبع البحث عن مخرج هو الحل الأنسب، وهذا ما صنعه علماؤنا ومفسرونا، إذ قالوا بأن علم الله بالذات، أي علم استقلالي، وعلم غير الله للغيب بالغير، أي على نحو التبعية لا الاستقلال.

ولإيضاح ما قلناه بالإمكان مقاربته من خلال أنواع الثبوت:

- الثبوت الذاتي: وهو الحقيقة العينية التي ليس مأخوذة من الغير، كالحمرة للون الأحمر.

- ثبوت الماهيات: وهو الثبوت الذي ننسبه إلى الماهيات، كما لو قلنا: الإنسان عالم، فهذا الثبوت ليس ثبوتاً ذاتياً بل مأخوذاً من الغير.

- ثبوت المفاهيم الاعتبارية: كالعلية والوجوب والإمكان.

بعد رسم خارطة أنواع الثبوت يتضح لنا بكل وضوح الفرق الجلي بين علم الله للغيب وعلم غيره، فالأول ذاتي والثاني تبعي، أي علم راجع إلى الغير، وبمعنى آخر بأنه على نحو ثبوت الماهيات.

وآخيراً أقول:

إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.