آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:42 ص

قد طلقتك ثلاثا

ما كان عليه أمير المؤمنين من سيرة عبادية وتقوى تعجز الكلمات عن وصفه، إذ يعد زادا ومنطلقا لمحبيه وشيعته أن يتخذوه قدوة وتأسيا، فكل نداءات الدنيا الهاتفة به أصم أذنيه عنها ولم تلق أي إجابة أو صدى مطلقا، وقد أعطاها ورقة طلاقها ثلاثا ممهورة بتوقيع زهده، في حطامها الزائل وزينتها التي غرت أهل الجهل وعمى البصيرة، ممن تكالبوا على الظفر بزخارفها من أي مصدر كان وبأي طريقة.

لقد أعطى أمير المؤمنين صورة جلية ومفهوما واضحا لحقيقة الحياة الدنيا، وحذر من الوقوع في حبائل عشقها الذي غر كثيرا من الناس فباءوا بخسران مبين، فالحياة ليست بمقر أبدي يعمل له الإنسان وكأنه مخلد فيها، بل هي محطة وممر يعيش فيها المرء ما كتب له من أجل ثم يرحل عنها، وهذه الحقيقة على بداهتها والشعور الوجداني السهل بها، إلا أن حب الدنيا إذا وجد أرضا خصبة نبتت جذوره في القلب وتكاثفت أغصانه فلا يطيق المرء عنها بعدا، وينتابه الضجر والاضطراب من مجرد التفكير أو تصور الرحيل عنها، إنه يرغب في الهناء الدائم الذي لا انقضاء له!!

البصيرة النافذة والتي تحرك عقل الإنسان وفق الوقائع والحقائق الثابتة والواضحة، تقيه من التيه بين دروب الغفلة والطمع والحرص الشديد وغيرها، ولذا فإن الأريب لا يمكنه أبدا أن يرتهن للدنيا وشهواتها المنزلقة به نحو حياة الدعة والنزوات المتفلتة، فكرامته وحفظه لنفسه من الانحطاط والتسافل الخلقي يدعوه للترفع عن الحرص والطمع والاستجابة العمياء للأهواء، فكيف إذا تكامل فكره بوجود قدوة حسنة كأمير المؤمنين ، والذي جسد العفة والزهد وبساطة العيش ورفض إقبال الدنيا، فنحن أمام ومضة تنير العقل والوجدان وتبصره الطريق القويم في كيفية التعامل مع الدنيا إن أقبلت بالمال والجاه، فيكف نفسه عن التعلق والحرص الشديد على تناول زينتها، والانشغال بذلك عن أداء دوره العبادي والرسالي في جميع أبعاد حياته.

ولذا فإن المحبة الحقيقة للإمام العلي لاتعني أبدا ميلا قلبيا وودا لاستماع سيرته ومواعظه، دون أن يكون لها حضور فاعل في سيرته وتعامله، بل هي قيم ومنهج يوجهه نحو الهدف الأسمى وهو رضا المعبود، فلا معنى لمولاة ومحبة أمير المؤمنين ونحن مقبلون بنهم وشغف نحو حطام الدنيا الزائل والتكالب عليه سانين أضراس الجشع والظلم.

الاتباع الحقيقي لمولى المتقين هو ظهور سيرته العطرة في الترفع عن الالتصاق واللهث خلف الدنيا ليصبح نيل زهرتها أكبر همه، وهذا - بالطبع - لايتعارض مع طموح الإنسان بتحسين وضعه المعيشي، وإنما موضع الخطر ومكمن الخوف هو الانسياق خلف شهواته ورغباته ويقدمها على كل شيء؛ ليتخلى عن قيمه الدينية والأخلاقية وتنزرع في قلبه آفات الشح والتبطر واستصغار الناس البسطاء، حينها يتحول المال إلى نقمة ومصدر ويل وثبور على صاحبه.

وهذا التاريخ يحكي لنا عن أناس أصابهم الاغترار بالدنيا والافتتان بزينتها، فتخلوا عن قيمهم وباعوا دينهم من أجل حفنة من المال أو جاه حكم وسلطة، وهذا - بالطبع - لا يغفل نظرنا عن أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين جعلوا حظوظهم من الدنيا من مال وجاه في خدمة دينهم وتخفيف كرب إخوانهم.