ليلة القدر
المائدة الرمضانية الربانية عامرة وكبيرة، ويكفي في ذلك ”الصيام لي وأنا أجزئ به“، حيث تتعدد هدايا الخالق لعباده في شهر رمضان، اذ يصعب حصرها في مجموعة كلمات، ”نومكم فيه عبادة وأنفاسكم فيه تسبيح“، مما يعطي دلالة على الخصوصية الكبيرة، التي اختص بها الله شهر الصيام.
وتمثل ليلة القدر احدى الليالي العظيمة، التي يحتضنها شهر الصيام، مما يضفي هالة أخرى من القدسية والجلالة، لشهر رمضان المبارك، فهي خير من الف شهر، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، ”خير من الف شهر“، فضلا عن كونها تشرفت بنزول كتاب الله، ﴿أنا أنزلناه في ليلة القدر وما ادراك ما ليلة القدر﴾، وهي ليلة مباركة، ”إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة“.
تعتبر ليلة القدر محطة سنوية، يمنحها الخالق لعباده، لمراجعة المسيرة الكاملة، طوال العام الفائت، حيث يقدر الله فيها حوادث السنة، فهذه الليلة تحمل في ثناياها، الكثير من الأسرار، التي لا يدركها العبد، الامر الذي يفسر الحث على تحري هذه الليلة، في العشر الاواخر من الشهر الفضيل، والحرص على الاشتغال بالعبادة، والتضرع للخالق بغفران الذنوب، وقبول الاعمال، فالعبادة في هذه الليلة خير من عبادة الف شهر، وهي ليلة أمن وسلام حتى مطلع الفجر، ”من احيى ليلة القدر غفرت له ذنوبه ولو كانت عدد نجوم السماء ومثاقيل الجبال ومكاييل البحار“ و”من احيى ليلة القدر حول عنه العذاب الى السنة“.
ليلة القدر تبقى سرا، من الأسرار الإلهية، فقد أخفاها الخالق ولم يكشفها، الامر الذي يفسر الاختلاف في تقديرها بين المسلمين، فالجميع يجمع على كونها في العشر الاواخر، من شهر رمضان المبارك، ولكن الاختلاف يكمن في تحديد وقتها، فالكثير يحرص على احيائها في الليالي الوتر من العشر، بينما يعمد البعض الى احيائها ليلة الثالث والعشرين، والبعض الاخر في ليلة السابع والعشرين.
الاجتهاد في العبادة، حتى بزوغ الفجر في ليلة القدر، يعطي دلالة على حرص العبد على التضرع، والخشوع للخالق لنيل المغفرة، والرضوان، وعدم الحرمان من العطايا الإلهية الواسعة، خصوصا وان العبد لا يعلم هل يتوفق لإدراك السنة القادمة، حيث تشهد دور العبادة ازدحاما شديدا، منذ الساعات الأولى لليلة القدر، وتستمر البرامج العبادية حتى الفجر، فهذه اللحظات يصعب تكرارها طيلة العام، وينبغي استغلالها بالصورة، التي ترضي الخالق للنيل الغفران، وفكاك الرقاب من النيران، والفوز بالجنان، حيث يقول الرسول الاكرم ﷺ ”يفتح أبواب السموات في ليلة القدر، فما من عبد يصلي فيها الا كتب الله له بما سجدة شجرة في الجنة، لو يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وبكل ركعة بيتا في الجنة من در وياقوت وزبرجد ولؤلؤ بكل آية تلجأ من تيجان الجنة، وبكل تسبيحة طائرا من النجل وبكل جلسة درجة من درجات الجنة، وبكل تشهد غرفة من غرفتا الجنة وبكل تسليمة حلة من حلل الجنة، فإذا انفجر عمود الصبح أعطاه الله من الكواكب والمألفات الجواري المهذبات والغلمان المخلدين والنجائب المطيرات والرياحين المعطيات والأنهار الجاريات، والنعم الراضيات والتحف والمهدئات، والخلع والكرامات، وما تشتهي الانفس وتلذ الاعين“.