تجليات رمضانية - 15
قبل ليلة القدر / صوم الأبدان أم صوم الشهوات
جاء في الحديث القدسي: ”الصَّوْمُ لِي وأَنَا أَجْزِي عَلَيْه“ «الكافي: ج 4 ص 63».. فأي صيام يريده هذا الحديث؟
ولنا أن نتساءل:
هل صام بطنك عن أكل الحرام كما صام عن الأكل والشرب؟ وكنت متيقظاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾، و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
هل صام لسانك عن الغيبة والكذب والبهتان والفحش؟ أم كنت منتبهاً لقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ و﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ و﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾..
هل صامت يدك عن البخل والسرقة والبطش وأخذ الرشوة ومزاحمة الناس في الطرقات العامة؟
هل صامت عينك عن مراقبة الناس والتفتيش في أعراضهم والتلصص على من حولك؟ أم كنت منتبهاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ و﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾..
هل صام أذنك عن تقفِّي ما ليس لك به علم؟ أم كنت كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾.
هل صام قلبك عن سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وغش الإخوان، والعداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟ أم كنت متذكراً لقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
إذاً، لا رقيب على الصائم إلا ربه، وفي ذلك تربية النفس على الخشية من الله تعالى في السر والعلن، وتلك الخشية تحقّق معنى الخوف منه سبحانه وتعالى؛ والخوف متعلق بالإدراك، وفاقد الإدراك هو من لا يخاف.. يقول الإمام علي : ”إنَّ أقربكم اليوم من الله أشدكم منه خوفاً“.
المهم هو صوم القلب والفكر عن كل رغبة خاطئة. أما صوم الجسد فهو أقل شيء.. واحرص إذن في صومك أن تضبط لسانك، وكما تمنع فمك عن الطعام، امنعه عن الكلام الرديء، وسيطر على أفكارك، واضبط نفسك.
ومتى تفاعل هذا المعنى في صومك فإنك - أيها الصائم - تترفع عن الشهوات استحياء من الله سبحانه. وإذا ما استبدت الأهواء بنفسك كنت سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة ﴿إنّ الذِينَ اتقَوا إذَا مَسهُم طَائِف مِنَ الشيطَانِ تَذَكرُوا فَإذَا هُم مُبصِرُونَ﴾.
وفي كل ذلك تربية لضمير الإنسان، فيصبح الإنسان ملتزماً بالسلوك الإسلامي بوازع من ضميره من غير حاجة إلى رقابة أحد عليه. بل يتجلى عنده خوف من أن تنقطع علاقته بالله التي تحرص عليها.
إنها رحمة الله المنبسطة على كونه الفسيح.
وهذه القيمة هي في أعلى قيم المنظومة القرآنية: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾.
ولعل الغياب الأبرز في خطابنا الإسلامي هو غياب صفة الرحمة عن الخطاب الديني عند الكثير من الوعاظ المسلمين، حيث نلحظ أنّ هذا الخطاب ينحو منحى التشدد، فهو يركز على صفة ”الانتقام“ الإلهي ويبالغ في الحديث عن صور العذاب ومشاهد النيران أكثر مما نراه يركز أو يتحدث عن رحمانية الله ورحيميته، وهذا ما يترك تأثيراً سلبياً على ذهن المتلقي والمخاطب.
إنّ المطلوب أن نقدّم ”الله“ إلى الناس بما قدّم به نفسه، قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾.