آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 6:47 م

كهف الجماعة

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

أنت وأنا ننظر إلى واقعة واحدة، فأرى شيئاً وترى شيئاً آخر. أنا وأنت لا نرى الواقعة كما هي، بل نرى صورتها التي في أذهاننا. لا يختلف الناس في حكمهم على الأشياء لأنهم يجهلون الحقائق، بل لأنهم يرونها على صور متباينة. قدم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر صياغة مبسطة لهذا المفهوم، فقال إن كل فهم جديد مشروط بالفهم السابق. ولا فهم من دون فهم مسبق. لهذا السبب على الأرجح رأى توماس كون، المفكر الأميركي المعاصر، أن ما يكتشفه البشر في مراحل العلم العادي ليس سوى إعادة ترتيب لما يعرفونه سلفاً.

قبل ذلك بزمن طويل، رأى أفلاطون أن عامة الناس سجناء للذاكرة الفردية أو الجمعية التي تحدد رؤيتهم للعالم. تخيل أفلاطون كهفاً يتسلل إليه بصيص ضوء، فتنعكس على جدرانه ظلال من حركة الحياة في خارجه، فيتخيل أهل الكهف أنهم يرون الحياة بذاتها. لكنهم في حقيقة الأمر لا يرون غير ظلالها. قلة قليلة ممن يملكون البصيرة أو يتحلون بالشجاعة، يتمردون على كهف الذاكرة فيخرجون إلى النور، فيرون العالم كما هو، ويرون الحياة كما هي. وحين يصفونها لأهل الكهف فإن قليلاً منهم سيجرأون على تقبل فكرة أن هناك، خارج جدران الكهف، عالماً ينبض بالحياة أو يتحرك في اتجاه مختلف عما تخيلوه طوال حياتهم.

أعاد فرانسيس بيكون شرح الفكرة في نظريته الشهيرة عن أصنام العقل الأربعة، أي منظومات الأوهام الساكنة والنشطة التي تتحكم في رؤية العقل للحقائق، وبينها أصنام الكهف.

أصنام الكهف أو كهف الذاكرة تنطبق بصورة بينة على المسار الاجتماعي الذي نسميه التمذهب. نحن ننظر إلى معتقداتنا فنراها صحيحة دائماً. بينما ينظر إليها أتباع مذهب مختلف، فيرونها خاطئة دائماً. نأتي بالأدلة والشواهد، فيأتون بأدلة وشواهد مقابلة. وفي نهاية النقاش، يزداد الطرفان قناعة بما كانوا عليه أصلاً. وكأن النقاشات كلها حوار بين طرشان أو مجرد نفخ في الهواء.

ليس بين الطرفين جاهل أو قليل العلم، وليس بينهما من لا يفهم الأدلة أو طرق الاستدلال. المسألة وما فيها أنهم يفكرون في قضايا تتحد في الأسماء، وقد تتحد في الجوهر، لكنهم لا يهتمون بجوهر الأشياء ولا بأسمائها، بل يهتمون بالمعاني المتولدة من تلك الأشياء.

معنى الشيء هو الصلة التي تربط بينه وبين الناس. ولا قيمة لأي شيء ما لم تتحدد علاقته بالأشخاص الذين يتداولونه. جرّب أن تعرض على طفل خمسمائة ريال أو لعبة بعشرة ريالات، فما الذي سيختار؟ المؤكد أنه سيختار اللعبة، لأنها تعني له شيئاً. أما الخمسمائة ريال فليست - بالنسبة إليه - سوى ورقة.

أتباع الأديان والمذاهب وأعضاء الجماعات السياسية، بل كل الناس على وجه التقريب، لا يجادلون قناعاتهم الأساسية، ولا يتخلون عن مسلماتهم، حتى لو رآها الآخرون غير معقولة. لأنها ليست عناصر هائمة في الفضاء، بل هي أجزاء متناغمة ملتحمة في صورة كاملة مستقرة في ذاكرتهم، تشكل كهفهم الخاص، أي عالمهم الحقيقي، الذي قد يماثل عالم الناس أو يختلف عنه، لكنهم يعرفون أنفسهم والعالم على هذا النحو.

هل يستطيع أحد البرهنة على أن عالمك أكثر معقولية من عالمي، أو أن كهفك أوسع من كهفي؟ ربما. لكننا نتحدث في نهاية المطاف عن كهف، واسعاً كان أو ضيقاً.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.