غرابيب سود!
يمكن للدراما أن تقدم وجبة ثقافية وفكرية أبسط وأكثر وضوحاً مما تطرحه وسائل الثقافة الأخرى. بل يمكنها أن تنافس وأن تصنع الفارق أيضاً إذا تمكنت أن تطرح الأسئلة وتثير النقاش بشأن القضايا المسكوت عنها.
ولا يمكن فصل الأعمال الدرامية التي يقدمها التلفزيون، عن الوعي الاجتماعي العام، ومستوى حرية التعبير، وتوازنات السياسة والاقتصاد. ولذلك هربت الأعمال التلفزيونية نحو الإسفاف لعجز المنتجين على اجتياز حقول الألغام السياسية والدينية والاجتماعية للوصول للمشاهد بوجبة دسمة من نقد الحاضر والماضي. وكان المبدعون من المنتجين والمؤلفين والممثلين، يواجهون الضغوط كل عام، سواء من الرقابة، أو من المتدينين الذين ينصبون أنفسهم حماة للأخلاق والسلوك وحراسة التابوهات المحرمة، أو أصحاب الفكر الظلامي الذين يتحسسون من قضايا المرأة والتعددية والتنوع الثقافي، أو من المتطرفين الذين يخشون أن تنكشف سيرتهم للناس..
كمن يرفع الغطاء عن تابوت أسود مسكون بالثعابين، جاء مسلسل «غرابيب سود»، الذي ينكش جحور تنظيم داعش الإرهابي، ليعريه أمام المشاهد؛ فكراً، وتنظيماً، وممارسات، وبنية تحتية.. وصولاً للانتهاك الإنساني الذي يمارسه التنظيم على البنية الاجتماعية: فتكاً وتهجيراً، والفظائع التي ارتكبها: قتلاً جماعياً وتفجيراً وحرقاً ورمياً للأبرياء من أسطح العمارات.. وصولاً لسيرته المتوحشة في ممارسة الاستغلال الجنسي ضد النساء.
هناك من يجد صورة له في هذا التنظيم. فجأة يتشدق بالموضوعية بحجة دحض رواية «جهاد النكاح»، حسناً.. هل يمكن لهؤلاء أن يصرفوا جزءاً من وقتهم للاستماع لشهادات موثقة لبعض الضحايا الناجين من جحيم «داعش» من النساء خصوصاً؟ هل يمكنهم مشاهدة مقابلات موثقة وبعضها عرضت أمام البرلمان الأوروبي لفتيات قاصرات من العراقيات الإيزيديات أخذن «سبايا» من قبل هذا التنظيم المتوحش؟ هل يمكن لهؤلاء المدافعين عن «داعش» أن يشرحوا لنا كيف انحدرت البشرية على يديه إلى ممارسة «السبي» في القرن الحادي والعشرين؟
لا بد من فتح الصندوق لكي يشاهد الناس هذا التنظيم الذي استمد قوته من غموضه وسريته، كيف هو، وكيف يعتاش على الدم، وكيف يوظف الدين من أجل منافعه ومصالحه وغاياته..
تهيمن على المعجبين والأتباع دائماً فكرة مثالية بسيطة وساذجة عن التنظيم، وقياداته، وأهدافه، وغاياته.. هنا يسطع الفنّ، كأداة تعري التطرف وتكشفه، تنزع عنه كل اللحاء الأسطوري الذي يتستر به، يبدو الفكر المتطرف مجرداً من كل أصباغ التجميل، وشاخصاً ينظر إليه الناس ليعرفوا كيف ينشأ وكيف يتشكل، وكم هو خطر ومدمر..
العالم السفلي الذي تسكنه التنظيمات السرية والمتطرفة، محفوف بالغموض، والتكتم، وحين تسلط الأضواء على هذا العالم، سنجد أن المنظومة الأخلاقية التي يتشدق بها مدعو الطهرانية موبوءة وفاسدة. سيمكن للناس أن تعرف حجم التناقض بين الشعار والواقع، بين الادعاء والحقيقة.
المعركة مع قوى الظلام هي معركة ثقافية أولاً، ولعل أبشع ما يمكن أن يواجه به الإرهاب الفصيح والواضح، أن يلقي البعض غمامة من التلبيس عليه! يجعلوننا نختلف بشأن تشخيصه، فضلاً عن إسقاطنا قسراً في فخ التبريرات الواهنة التي لا تفعل شيئاً سوى تبريد المواقف وتمييع العزيمة وتشويه الحقيقة.
الأعمال الرمضانية أصبحت منذ سنين تثير الأسئلة، وهذا مهم بحد ذاته، فالبحث عن إجابات تتعلق بالمعضلات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي نعيشها ضرورة من أجل استثارة الوعي، وضرورة من أجل منع الذهن أن ينصاع لرتابة الواقع وهيمنة النسق.