نسبية المعرفة الدينية
من حيث المبدأ، يتجه الخطاب الديني إلى كل البشر، في كل الأزمان والأماكن، باعتباره مثالاً ومنهجاً كونياً، قادراً على توحيد الأحياء وتعزيز الألفة فيما بينهم، وصولاً إلى تشكيل أمة واحدة تسود الكوكب. وفي هذا المجال لا يختلف دين عن دين. الإسلام مثل المسيحية واليهودية والبوذية وجميع الأديان الأخرى، كل منها يقدم نفسه كخطاب كوني وقوة توحيد للعالم. وهي جميعاً تدعو للتعارف والتفاهم بين الأقوام والجماعات البشرية المختلفة، تمهيداً للاندماج والتوحد...
لكن تاريخ العالم يخبرنا أن الأديان التي نجحت أولاً في توحيد المجتمعات الصغيرة، سرعان ما أصيبت بداء الانقسام والتفكك الداخلي.
ومن المفارقات أن كل الأديان تسعى للتوسع، من خلال ضم مجتمعات جديدة إلى قاعدة أتباعها ومعتنقيها. لكن هذا المسار ذاته، يفتح الباب لدخول أعراف تلك المجتمعات وموروثاتها الثقافية، إلى النسيج الثقافي للدين. وما دام بقيت أبواب المعرفة الدينية مفتوحة لجميع اتباع الدين، فإن احتمالات التحول في تلك المعرفة تبقى مشرعة بالقدر نفسه. المزيد من الأتباع يعني المزيد من الإضافات، والمزيد من الإضافات يعني احتمالات جديدة لظهور جماعات متمايزة داخل الدائرة الدينية.
اختلاف الفتوى من بلد لآخر ومن زمن لآخر، مثال شائع عن تلك الحقيقة. وهو للمناسبة من الأمور التي يحبذها أتباع الأديان كافة، ويرونها دليلاً على يسر الدين وانفتاحه. بعض الباحثين ينظر لاختلاف الرأي والفتوى كقضية علمية بحتة، سببها اختلاف العقول وتعدد الأدلة. لكن الواقع يخبرنا أن عقل الإنسان لا يعمل في العزلة. فهو يتأثر بالمعارف المنظمة والأدلة، إضافة إلى التصورات الذهنية المنعكسة عن ظرفه الاجتماعي، أي أنماط معيشة الناس وهمومهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم ومصالحهم ومخاوفهم. تترك هذه المؤثرات بصمتها على الفتوى والرأي الديني، مثل أي تعبير ثقافي آخر. العوامل البيئية تؤثر في فهم الباحث لموضوع البحث كما تؤثر في مسارات تفكيره، وتؤثر أخيراً في صياغته لنتاج عقله. اختلاف البيئة الاجتماعية لعالم الدين، هو السبب وراء تعدد النماذج الدينية واختلافها بين بلد وآخر، أو حتى بين جيل وآخر في البلد نفسه.
المفترض أن نتعامل مع تعدد النماذج الدينية كسياق طبيعي في الحياة. بل من المنطقي القول: إنه مؤشر على اتساع التجربة الدينية وميلها إلى الثراء والتكامل. لكننا مع ذلك سنواجه سؤالاً لا يسمح بإجابة نهائية، وهو سؤال المسافة الممكنة للاختلاف بين النماذج المحلية للدين من جهة، والمسافة الممكنة للاختلاف بين كل من هذه النماذج، وبين النموذج النظري الأصلي. سبب هذا السؤال هو القناعة القائلة بأن النموذج الأصلي للدين هو الوحيد الذي يتمتع بمشروعية كاملة، أما النماذج المحلية فمشروعيتها نسبية، ومشروطة بقربها إلى الأصل أو بعدها عنه.
بالنسبة لمعظم الناس، يبدو ذلك السؤال بديهياً وضرورياً. فجميعهم يود الاقتراب من الأصل قدر المستطاع. لكنه، من ناحية أخرى، سؤال غير منطقي، بل لا يبعد أن يكون بلا موضوع. فكل متدين ينظر إلى كلا النموذجين: المحلي والأصلي، من زاويته الخاصة. أي أن رؤيته محكومة بظرف الانقسام، وبالتالي فهي منحازة. فهل يمكن لرؤية منحازة أن تقدم حكماً محايداً؟
نتيجة الجواب ليست مهمة، المهم أن قبولنا بالسؤال في الأصل يمثل إقراراً ضمنياً بأن المعرفة الدينية نسبية، وأن التطبيقات الدينية من جملة تلك المعارف، التي قد تطابق الحقيقة الدينية أو تفارقها.