آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 4:00 م

بين الإرهاب والمقاومة

يوسف مكي * صحيفة الوطن

كما هزم الفلسطينيون عدوهم بتطوير أدوات كفاح تتماهى مع قيمهم النبيلة، علينا أيضا أن نبدع آليات ووسائل من نوع غاياتنا، تتمكن من إلحاق الهزيمة النهائية بالإرهاب

قبل أيام قليلة من قدوم شهر رمضان المبارك، وأثناء استعداد المسلمين لاستقبال الشهر الكريم شهدت المنطقة حدثين بارزين، لهما دلالاتهما في المعنى والسلوك. الأول هو الهجوم الإرهابي على حافلة تضم مجموعة من إخواننا الأقباط بالمنيا، في طريقهم للكنيسة لأداء طقوس العبادة. وحصد الهجوم الإرهابي قرابة الستين ضحية، نصفهم تقريبا ارتقوا إلى العالم الآخر، والبقية أصيبوا بجروح خطيرة.

أما الحدث الآخر، فهو إعلان توصل السجناء الفلسطينيين المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال إلى اتفاق مع إدارة الاحتلال، على تعليق إضرابهم عن الطعام الذي استمر أكثر من أربعين يوما، بعد إجبار الاحتلال على القبول بمعظم مطالبهم.

المفارقة بين الحدثين كبيرة وواسعة وصادمة أيضا. وهي مفارقة بين نهجين متناقضين بشكل كامل.

إنه تناقض بين ثقافة الموت وثقافة الحياة، بين العدمية والمقاومة، بين العمل الإجرامي وبين الموقف الأخلاقي. وكلاهما يؤكد أن الغايات هي التي تبرر الوسائل.

وتعبير الغايات تبرر الوسائل تعبير ينطلق من منهج براجماتي، لا يقيم وزنا للأخلاق، حيث المنطقي أن الوسائل ينبغي أن تكون من نوع الغايات، وأن العمل النبيل لا يحتاج لوسائل ملتوية، وغير إنسانية لبلوغ أهدافه. ولكن في هاتين الحالتين، يتطابق المعنى والمضمون.

فالعمل الإجرامي الذي ارتكب بحق إخواننا المصريين في المنيا، هو عمل تخريبي بامتياز، ولا يسنده أي موقف ديني أو أخلاقي، وليس له من هدف سوى مراكمة الخراب والتخلف، وإعادة عقارب الساعة إلى الخلف. وهو جزء من مخطط تخريبي شامل، يستهدف أمتنا بالدرجة الأولى، حيث يسود ما يشبه الحروب الأهلية، في عدد من الأقطار العربية، بعضها كان حتى وقت قريب، مراكز إشعاع في مشروع اليقظة العربية، والذي عبر عن حضوره القوي، قبيل وبعد الحرب الكونية الأولى. وقد تسبب هذا الخراب في تهجير أكثر من عشرين مليون عربي من أوطانهم، بعضهم تمكن من إيجاد مأوى له، في خارج جغرافيا الوطن العربي المقهور، والبعض الآخر لا يزال يعاني الفاقة والحرمان، والتسكع في شوارع كثير من المدن العربية، في بيروت وعمان والقاهرة.... وأيضا في الجوار الإقليمي، وكثير ممن حاولوا النفاذ بجلدهم سقطوا غرقى، في مياه البحر الأبيض المتوسط المتلاطمة.

وهنا نلحظ التماهي المطلق بين الوسائل والغايات، فغاية الجريمة هنا عدمية وغير أخلاقية، وليس لها من هدف سوى إلغاء التنوع الديني والمذهبي، في واقعنا العربي. وهذا السلوك يتطابق تماما مع محاولة القضاء على الأيزيديين في العراق، وأيضا القتل على الهوية، الذي مارسته الميليشيات الطائفية في العراق، بعد احتلال بغداد مباشرة، وقتل المسيحيين في سورية، على يد داعش وجبهة النصرة. وتلك أنواع من حروب الإبادة، التي لا يمكن قبولها أو تبريرها، أو وضعها في أي خانة دينية.

في المقابل هناك شعب محتل اغتصبت أرضه، وتم فرض كيان صهيوني غاصب، بحكم الأمر الواقع، وبات اغتصابه للأراضي الفلسطينية التي جرى احتلالها في نكبة فلسطين عام 1948 أمرا معترفا به من قبل الأسرة الدولية. وفي حرب يونيو 1967 احتل الصهاينة البقية الباقية من فلسطين.

وأمام انعدام توازن القوة بين المحتل وبين الشعب الفلسطيني الواقع تحت قبضة الاحتلال قبل الفلسطينيون بتسوية سياسية تمنحهم دولة مستقلة، فوق الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب يونيو، وتحديدا فوق أرضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون القدس الشرقية عاصمة الدولة المرتقبة.

ورغم مضي قرابة خمسة وأربعين عاما، منذ اتجه الفلسطينيون نحو الخيار السلمي، مباشرة بعد حرب أكتوبر عام 1973، ورغم أنهم وقعوا مع العدو الصهيوني اتفاق أوسلو عام 1993، الذي يقضي بقيام دولة فلسطينية مستقلة، على أراضي الضفة والقطاع، بعد فترة انتقالية لا تتجاوز خمسة أعوام من تاريخ توقيع الاتفاق، فإن العدو لم يلتزم بنصوص ذلك الاتفاق، وضرب بكل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وهيئة الأمم المتحدة ذات العلاقة بالشأن الفلسطيني عرض الحائط. وبدلا عن الالتزام بما توصل إليه مع منظمة التحرير الفلسطينية من اتفاقيات ومعاهدات وتفاهمات، فإنه لجأ إلى بناء المزيد من المستوطنات اليهودية والممرات والجدران العازلة، ومصادرة الأراضي وتجريف المزارع، واعتقال القيادات الفلسطينية.

ومع عنف المحتل فإن الفلسطينيين واصلوا كفاحهم السلمي بمختلف أشكاله في مواجهة الاحتلال. وكان الأنصع والأبهى في هذا الكفاح هو انتفاضة أطفال الحجارة التي أبهرت العالم بأسره. والتي شلت قدرة الكيان الصهيوني الغاصب، ودفعت بإسحق رابين رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي في حينه إلى القول بأن جيش الاحتلال تمكن سابقا من هزيمة كل الجيوش العربية، ولكنه ظل عاجزا أمام انتفاضة أطفال الحجارة.

صمود الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ومقاومتهم له بأمعائهم الخاوية، صفحة ناصعة أخرى من صفحات الكفاح الفلسطيني، ضد العنصرية الصهيونية. وهي صفحة يتكامل فيها التماهي بين الغايات والسلوك. فالأهداف العظيمة والنبيلة تتطلب أدوات نبيلة من نوعها. ويقتضي الوفاء لهذه الصفحة الناصعة، في هذا المنعطف من تاريخ القضية الفلسطينية أن يتداعى الجميع لتحقيق الوحدة الفلسطينية، بعد أن توحدت في سجون الاحتلال، حيث شارك جميع سجناء فصائل المقاومة بسجون الاحتلال في الإضراب عن الطعام.

مواجهة الإرهاب في مصر وبقية بلدان الوطن العربي ينبغي لها من أجل أن تنتصر في معركتها ألا تحارب الإرهابيين بأدواتهم، بل ينبغي تبديل ثقافة بثقافة، وشيوع ثقافة التسامح وبناء الدولة العربية على أسس عصرية، ينتفي فيها الإقصاء، ويتحقق فيها العدل والمساواة. وكما هزم الفلسطينيون عدوهم بتطوير أدوات كفاح تتماهى مع قيمهم النبيلة، علينا أيضا أن نبدع آليات ووسائل من نوع غاياتنا، تتمكن من إلحاق الهزيمة النهائية بالإرهاب، وتكرس الكرامة الإنسانية، والتماهي بين الغايات والسلوك.