الكلام الفائض عن الحاجة
أصبح من المسلم به أن شبكات التواصل الاجتماعي أوجدت وضعا جديدا أو ظواهر جديدة ضمن ظواهر كثيرة ومتعددة في العلاقات الاجتماعية والثقافية. وضعت أكثرها تحت مجهر النقد والفحص، وبرزت - تحت تأثير وضغط هذه الظواهر - نظريات سيسيولوجية تعيد النظر في مقولاتها الكبرى كالمجتمع والفرد والثقافة والتطور. لكنني هنا سأركز على واحدة منها، حيث يمكن تسميتها «الكلام الفائض عن الحاجة». لكن ما الذي أقصده وراء هذه التسمية؟
ربما من السابق لأوانه الحديث عن تسمية الظاهرة قبل الحديث عن الظاهرة ذاتها. لذلك لازم الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض صفة التعبير عن ذاته، حيث اتخذت هذه الصفة وظائف متعددة وفق تطور الإنسان وترقيه الزماني والمكاني، فمن إنسان الكهوف إلى إنسان اللغة برزت خاصية للإنسان جد مهمة، أثرت على فهم الإنسان لنفسه لاحقا، هي تكيف الإنسان مع بيئته المحيطة، مع خلق الوسائط المعبرة عن هذا التكيف. ولا شك أن الأهداف الكبرى المحرك لهذا التكيف هو البقاء ومقاومة الموت. ومنذ ابتكر الإنسان اللغة وأصبحت أداته الرئيسة في التعبير عن مكنوناته وحاجاته الطبيعية أصبحت في نفس الوقت أداة تهدد الإنسان وتصيبه في مقتل. فالأدبيات التي تتحدث عن خطر اللسان على صاحبه حين يتكلم كثيرة، وهناك الكثير من المرويات والقصص التاريخية المتنوعة التي لا تنفك تشير إلى هذا الخطر، ولا يسعني المجال في التوسع في هذه النقطة، ويمكن الرجوع إلى كتابات الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو فهو من أهم الكتاب الذين أصلوا لهذه الظاهرة.
أصل هنا إلى ما أريد استنتاجه: إذا كانت المجتمعات القديمة أعطتنا المثال تلو المثال على الخطر الذي كانت تجسده اللغة وأداتها اللسان على الإنسان، رغم قلة التواصل الإنساني مقارنة بالمجتمعات الحديثة، فإن الخطر يكون أكبر حين نلتفت إليها في ظل وجود شبكات التواصل الاجتماعي. ولا يعني هذا القول التراجع عن المكتسبات التي وفرتها هذه الشبكات في مسألة التعبير عن حرية الفرد والمسائل المرتبطة بحقوقه ووعيه بنفسه. لكني أشير بصورة محددة إلى غياب المسؤولية باعتبارها قيمة أخلاقية ومعرفية ترتبط بالفرد من جهة، والمجتمع من جهة أخرى. وهذا ما لا أجده متوافرا تماما، حين أرى شبابا يخوضون في كل المسائل الكبرى التي تؤثر على حياة الإنسان ومجتمعه ودينه دون وازع من هذه المسؤولية. اللهم فقط لأن التقنية أتاحت له أن يقول في هذا الزمن، ما لا يمكن أن يقوله، لو عاش في العصور القديمة، حتى لو كان أشجع الشجعان.