تقوية الإرادة
يتبادر إلى الأذهان ذلك التساؤل الباحث عن أسرار الامتناع عن الطعام والشراب في نهار الصيام، فما هي الغاية الاكتسابية التي يمكن أن تضيف كمالا وألقا للصائم، وتجلي منه شوائب الانحدار والسقوط إن امتنع عن المفطرات؟
العلة تكمن في تلك المنعة والحاجزية التي يمكن أن يمتلكها العبد، فتعليه على التهافت والاستجابة السريعة للشهوات المذلة وارتكاب الخطيئة، فالفارق البين المؤمن الورع الذي يخاف الله تعالى ويراقب أفعاله وأقواله لئلا يقع في الخطأ والعيب، وما بين ذلك المرء الذي أبدى استسلاما وخنوعا لرغباته ونزواته، هو الشعور بوجود الله ورقابته لعباده، والاستعداد للحساب في يوم القيامة إذا عرضت صحائف الأعمال، ووقف العباد بين يدي الجبار مسئولا.
تقوية الإرادة الممانعة لارتكاب المعصية والتوغل في منطقة المحرمات والمنكرات، هو أهم دروس جهاد النفس وتهذيبها في طريق مواجهة الرغبات الدتيئة وتسويلات النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان الرجيم، فمتى ما امتلك المرء ما يمثل جرس إنذار وجهاز تحذير عند مواجهة خطر محدق يعرضه لسخط الله تعالى، فإنه يستطيع أن يكون شخصية قوية في ميدان الشهوات وعتيا على الانحطاط الأخلاقي.
الصوم يدرب المؤمن على القدرة على كبح جماح الغرئز المتفلتة، والتي يمكن لها أن تقوده نحو الهلاك والخسران إن بقي ضعيفا ذليلا لأهوائه، لا يمتلك قدرة عملية على الوقوف أمام ما ينهاه عقله عنها، فيحتاج إلى قوة يعتمد عليها في تلك اللحظات الصعبة التي يمكن فيها أن يرتكب ما يندم عليه كثيرا، ولعله يستدرج إلى تكرار الفعل فيفقد الإرادة تماما.
وعلى مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية يواجه الإنسان أكبر تحد لنجاحه في إقامتها على أساس المحبة والاحترام والثقة المتبادلة، وهذا التحدي هو القدرة على ضبط النفس أمام التيارات العاصفة للانفعال الشديد، فعندما يحتدم النقاش وتعلو الأصوات ويبدأ حفل التراشق بالكلمات المسيئة والجارحة، تظهر بوادر الكراهية والخلافات والاتجاه نحو القطيعة، وهنا يحتاج المرء إلى ضابطة تحفظه من الانزلاق إلى العصبية والغضب وما يترتب عليها من تصرفات مقيتة وممجوجة، تجعله شخصا منبوذا ولا يحبذ أحد الاقتراب من حديث معه فضلا عن التعامل معه، وهذه الإرادة القوية التي تنظر إلى عواقب الأفعال ونتائج التصرفات الطائشة والمتهورة، فيحسب ألف حساب لأي كلمة يتفوه بها ومسارها في نفس المتلقي، ويضع في باله خطر ردات الفعل الهوجاء والتي تسقطه من عيون الآخرين.
حسن التخلق ومداراة خواطر الناس وتجنب التعاطي معهم بمزاجية وانفعالية، من العطايا التي يكتسبها الصائم، فيتحكم بأعصابه في الظروف الصعبة ولا يخرج عن نطاق الحكمة والاتزان مهما كان الموقف في شدته، وهذه الإرادة المتعالية على الإساءة والإهانة للغير تتجلى بتدريب يومي يحياه الصائم وهو يحافظ على صومه من الاجتراح والضياع، فالصوم في حقيقته صناعة شخصية المؤمن وصياغتها وفق معطى الصلابة أمام المغريات والمسقطات لألقه وجاذبيته.