آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

ملة إبراهيم - الحلقة السابعة - خليل الله

حلمي العلق

اتخذ الله سبحانه وتعالى إبراهيم خليلاً وذاك مقام وظيفي هام في موضوع الملة، لم يتخذ الله صاحبة ولا ولداً، وحين بين سبحانه المسافة بينه وبين البشر ثبتها ولم يستثن أحداً، فكل البشر مخلوقات أمام خالق واحد. وفي تسمية الخلة تلك موضوع مهم يعتني بالمكانة الوظفية لنبي الله إبراهيم، تلك المكانة التي تحفظ الدين عبر العصور من خلال اسمه .

الخلة هي الخِلالة، وتعني أن الدين جاء من خلال هذا النبي بعد أن رُفع عن الناس بسبب ظلمهم وابتعادهم عن كلمات الله في الحقبة الأولى من زمن الرسالات، وبعد الدعاء والإلحاح والجهاد والصبر الكبيرين الذين أبداهما نبي الله إبراهيم ، أنزل الله الدين على الناس من خلال نزوله على نبي الله إبراهيم، وهذا ما يشير إليه نبي الله يوسف حين تحدث لصاحبي السجن قائلاً ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[1] ، فقد تفضل الله سبحانه وتعالى على إبراهيم وآله في أن أنزل الدين عليهم، وبدوره هو وأبناؤه أوصلوه إلى الناس، فكانت المنة أولاً على أبنائه ومن ثم على الناس، ومن تلك اللحظة أصبح نبي الله إبراهيم بوابة عبور الدين والشرع إلى الناس كافة. أما أبناء العهد من بعده فقد واصلوا المسيرة في دعوة الناس للحق، وأوصلوا ما أمر الله به أن يوصل.

وبالتأمل نجد أن لكلمة الخلة معنىً أعمقَ من ذلك الموقف التاريخي، فنزول الدين كاملاً على نبي من أنبياء الله في زمن من الأزمان، ومواصلة أبنائه من بعده في السير على الطريقة والاعتماد على الملة التي نزلت عليه، تعني أن لا خلة لأحد من بعده، فالكل سائر على ملته عائد إلى الدين الذي نزل عليه. وإعطاء صفة الخلة لإبراهيم ليس أمراً عاطفياً أو عبثياً، ففي إثباتها له نفي لنسبتها لغيره، وفي هذا إشارة هامة تعطي للصفة أهمية في ثبات الدين، فكل الاختلاقات التي جاءت بها الديانات التي تنتسب في أصل دعوتها إلى نبي الله إبراهيم ادعت انتماءها ومواصلتها على النهج الإبراهيمي ولكنها في الحقيقة أخذت كل تلك المزايدات من خلال مصدر آخر غير إبراهيم ! وتلك الخلة الأخرى ينفيها العقل والنص، فالعقل يقول إن خلة إبراهيم أدت إلى التفضل على الناس بدين لا نقيصة فيه ومنذ زمن نبي الله إبراهيم، فكيف تكون هناك خلة أخرى بعده بآلاف السنين؟ وكيف تتكون ملل أخرى متفرقة تزايد وتنافس الملة الأصل؟ اتخذ الله إبراهيم خليلاً تعني أنه سبحانه لم يتخذ خليلاً غيره في مسيرة الملة التاريخية، وتعني سقوط كل الاعتبارات التي بنيت على أساس أن هناك شيئاً مستحدثاً لم تتطرق له الملة النازلة على نبي الله إبراهيم من قبل. أما ما ينافي ”الخلة“ لغيره نصاً فالله سبحانه وتعالى يقول في تحديد هوية نبي الله إبراهيم التي حاولت بعض الطوائف اختطافها وتزييفها ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[2] ، والشهادة المقصودة في الآية الشريفة هي النص التوراتي أو الإنجيلي الذي يبيّن حقيقة ماكان عليه نبي الله إبراهيم وأبناؤه من بعده في كونه حنيفاً مسلماً ولم يك منحازاً إلى تيار أو طائفة، وأن هذه المسميات لم ترد في قاموسه قط بل هي استحداثات جاءت من بعده، ولأنها كذلك فتلك الملل بكل مستحدثاتها التي لم يعهدها إبراهيم باطلة.

من ناحية أخرى فالله سبحانه وتعالى يأمرنا باتخاذ مقام إبراهيم مصلى ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[3] ، وهو أمر يؤكد على أتباعه من بعده على ضرورة إبقاء اعتبار نبي الله إبراهيم خليلاً، ويفرض هذا الاتخاذ أن يكون القدوم لله من خلال هذا النبي لا من خلال أحد غيره، فمقامه العملي ووظيفته الربانية هي أن يبقى إماماً على مدى العصور، وصلاتنا في تلك البقعة المباركة يجب أن تتخذ صورة المأموم لهذا الإمام، وإذا فهمنا أن الصلاة هي صلة العبد بربه على أساس الاعتراف بقِيَمِه ودينه النازل على إبراهيم، فإن لتلك المأمومية دلالة رمزية ومعنوية كبيرة تضبط البوصلة وتفضح الانحرافات العقائدية التي تتخذ مقامات ورموزاً وشعاراتٍ أخرى فينتهي بها الأمر إلى الخروج عن الملة وقيمها الأساسية.

مقام إبراهيم مصلى للمسلمين، وهذا المصلى الدائم هو بوابة اعتراف بخلة إبراهيم، ومن خلال هذا الاعتراف ندخل لله متوحدين خلف إمامة واحد كأمة واحدة بملة واحدة ولا مبدل لكلمات الله.

[1]  سورة يوسف «38»

[2]  سورة البقرة «140»

[3]  سورة البقرة «125»