معرفة لا تموت
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ 21 الأحزاب.
قال رسول الله ﷺ: «إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».
عن الإمام الصادق : «أمرنا صعبٌ مستصعب لا يتحمله إلا ملكٌ مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان».
اجتمعنا لتسجيل حلقتنا الواحدة والعشرين في أحد ليالي النصف الثاني من شهر شعبان، بعد ذكرى ميلاد الإمام الحجة ، وكان اجتماعنا هذا في مجلس الضيوف لتوقع التحاق احد الأقارب معنا في حلقة النقاش، وكان الموعد المضروب بعد وصول الضيف العزيز مباشرة، لذا كانت مكيفة الهواء تعمل في الأثناء لنشر نسيمها العليل في أنحاء المكان لنتمكن من الجلوس أثناء الحديث.
مع وصول الضيف المبارك سالما، وبعد تقديم أصول التحية والسلام، وأخذ كل منا موقعه، قامت الحاجة أم الأولاد بواجب الضيافة.
بعد إن استعد الضيف المبجل للحوار بدأ حديثه قائلا: لقد اطلعت على الحلقات السابقة حلقة بعد حلقة، وكلما أنهيت حلقة وبدأت بالتي بعدها تزداد لدي الرغبة لمعرفة المزيد، وتزداد عندي الأسئلة التي أتطلع للحصول على إجابات لها.
تفضل يا أخي أحمد واطرح أسئلتك لعلنا عبر النقاش المشترك نستطيع الوصول إلى إجابة لها.
كلنا يعلم عن تضييق الدولة الأموية الخناق على الإمام الحسين ومحاولة قتله للتخلص من قوته الدينية وتأثيره على المسلمين، لكونه الممثل الوحيد والباقي بعد جده رسول الله ﷺ، انتقل الإمام من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة مستجيرا بالبيت الحرام، ولكنهم لم يتركوه لحاله، فأرسلوا له من يغتاله ولو تعلق بأستار الكعبة، حتى خرج من مكة المكرمة متجها إلى العراق مخافة أن يستحل الحرم بسببه.
أراك مطلعا جيدا على ما كان يدور حول الإمام الحسين يا أخي، ولكنك لم تصل بعد يا عزيزي إلى مبتغاك، ولم تطرح سؤالك أو أسئلتك التي حريتك؟
أخي الحبيب تحلى بالصبر قليلا كما عهدتك، وأعطني الفرصة لأكمل فكرتي!!
تفضل يا أخي وواصل كلامك، وآسف على المقاطعة.
كما تعلم يا أخي الحبيب لما أراد الإمام الحسين التوجه إلى العراق اعترضه العديد من صحابة جده رسول الله ﷺ محاولين نصحه ومنعه من الذهاب لأسباب عدة.
وما هي هذه الأسباب يا عزيزي؟!
من هذه الأسباب:
- مخالفة الجماعة والخروج على طاعة ولي الأمر حسب زعمهم.
- إن ذهابه للعراق سوف يتسبب في قتله كما تنبأ بذلك جده رسول الله ﷺ.
- أنه يرمي بنفسه وبمن معه إلى التهلكة.
- أن خروجه من منطقة الحرمين سوف يشجع الأمويين على استباحتهما، بل سوف يسهل عليهم ذلك.
- أن أهل العراق لا أمان لهم وسوف ينقضون عهودهم معه وينقضون عليه فيقتلوه كما قتلوا أباه وأخاه من قبل.
كما أرى لما تصل بعد يا أخي الحبيب إلى سؤالك الذي تريد طرحه!!
صحيح يا أخي العزيز لأنك لم تدعني اطرح كامل فكرتي.
تفضل، ومعذرة على المقاطعة مرة أخرى!!
كما تلاحظ هذه بعض كلمات من اعترضوا طريق الإمام الحسين وأرادوا منعه من التوجه إلى العراق وكل منهم لديه أسبابه الخاصة.
وما هي ردوده يا ابن والدي العزيز؟!
هذه بعض ردوده عليهم:
- هذه كتبهم وبيعتهم.
- لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أستحل حرمتها، يعني مكة.
- فلابدّ لي إذاً من مصرعي.
- ومهما يقض الله من أمر يكن.
- إنّي رأيت رؤيا ورأيت فيها رسول الله ﷺ، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، ولست بمخبرها أحداً حتى ألاقي عملي.
- إنْ كنت أردت بكتابك إليّ برّي وصلتي فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، وإن لم تشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، وخير الأمان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافته في الدنيا توجب لنا أمان الآخرة عنده «*».
كما ترى يا أخي العزيز فهذه بعض مقالات من اعترض طريق الإمام الحسين وهو ذاهب لكربلاء، وتلك هي إجاباته لهم.
إلى ماذا تريد يا أخي الحبيب أن تصل؟!
ما أريد الوصول إليه أن هناك اختلافا وتفاوتا في كلمات الإمام وردوده لمن أراد نصيحته، كأنما يجيب كل شخص على قدر عقله وفهمه، بدل من أن يقول له الحقيقة بيضاء ناصعة: «إني ذاهب لتأدية واجبي الشرعي»، فلما كان منه ذلك؟!
طبقا لما توصل إليه المحققون إن كل ما قلته يا أخي الحبيب صحيح ولا يجافي الحقيقة، فإن الإمام الحسين كان يرد على كل واحد من هؤلاء حسب قابليته لفهم الحقيقة.
ولما ذلك يا أخي؟!
كما قال الأئمة : «إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو بني مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان». وهذا مع ما ذكرته أنت سابقا يؤكد لنا أن ليس كل من كان حول الإمام الحسين يفهم الهدف من خروجه، رغم ما ذكروه من كلمات الرسول ﷺ، لأنهم في أسر الفهم المجتمعي العام، بل أن البعض كان يشجع الإمام على مخالفة نبوءة جده ﷺ، محاولا إبطال تلك النبؤة، غفلة وجهلا بأمور العقيدة، كأنما نبؤة النبي ﷺ يمكن إبطالها باعتراض الناس لها.
إذا الإمام يؤكد على مصداقية ما قالوه رغم انه يخالفهم عمليا فيه، أليس كذلك؟!
يجب أن نلاحظ يا أخي أن الإمام الحسين هو إمام قام أم قعد حسب قول جده ﷺ، فهو لا يقوم بأعماله اعتباطا ولا تهورا، فكل أعماله مرسومة ومخطط لها بدقة من لدن حكيم عليم.
لم تصل يا أخي إلى مقصدك بعد كل هذه المقدمة؟!
كما قلت أنت تمهل حتى أتمكن من إتمام الفكرة!!
تفضل يا أخي العزيز، وآسف على المقاطعة، لكني في شوق لمعرفة الإمام كما ينبغي.
شكرا يا أخي على هذا الشوق والاهتمام للمعرفة.
كما قال المحققون فالإمام ليس متهورا، وأنه قد اختير من قبل الذات الإلهية بعناية فائقة القيام بهذا الدور المهم في تلك اللحظات الفاصلة والحرجة من حياة الأمة. وكل ما يقوم به هو ضمن تلك الخطة الإلهية مرسومة بدقة متناهية، قد تخفى على الكثير منا ولو اتسموا بالفطنة والذكاء.
تفضل يا أخي أكمل الفكرة فلقد اتضحت معالمها لي.
شكرا يا أخي.
هنا نفهم أن الإمام لا يلغي الأفكار الأخرى التي طرحت عليه، ولكن لا يؤخذ تلك الأفكار وحدها كمنطلق له في حركته. فلا ابن زياد ولا يزيد ولا العباسيين ولا غيرهم من الحكام المستكبرين هدفه النهائي، وإذا قضى عليهم قضى بذلك على كل الظلم في الأرض. أن الإمام مع انه يطمح إلى بناء امة باقية مدى الدهر، قادرة على الوقوف في وجه الاستكبار والطغيان والظلم، كذلك يسعى إلى بناء معرفة باقية مدى الدهر، معرفة يمكن استعمالها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق، معرفة يمكنها دفع حياة الفرد والجماعات والمجتمعات نحو الرقي والتقدم، معرفة يمكن أن يطبقها ويستفيد منها المسلمون وغير المسلمين. وهنا نفهم ما قله المهاتما غاندي: «تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر».
هل استطعت إيصال الفكرة التي أراد الإمام الحسين إعطائه حياة أبدية لا تموت؟
نعم يا أخي لقد اتضحت لي فكرة الإمام الحسين بدقة عالية. فعلى هذا يعتبر الإمام قد سبق المفكرين من أبناء عصره، بل سبق المفكرين من أبناء جميع العصور قاطبة.
هذا يدلل يا عزيزي على مصداقية ما قاله جده ﷺ عنه وعن أخيه : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، بل هذا هو ما تعنيه الإمامة بقدر ما نتمكن من التعبير عنه.