آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

لا شخص فوق النصيحة..

الشيخ حسين المصطفى

في الحديث ”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها“.

يركز النبي الأكرم ﷺ على المنهج التربوي الإسلامي، وهما كلمتان تشكلان ركيزة في تعاطي الإنسان مع الآخرين؛ واحدة إيجابية يريد الله للناس أن يلتزموها ويأخذوا بها، وهي النصيحة، وأخرى سلبية يريد الله للناس أن يرفضوها ويبتعدوا عنها، وهي الغش.

فالله تعالى أرسل الأنبياء إلى الناس كافة من أجل أن ينفتحوا عليهم بالنصيحة، وذلك بما يملأ عقولهم بتوحيد الله، وحياتهم بطاعته وعبادته، وبما يجعلهم يتحركون من أجل إقامة العدل بين الناس، وإسقاط الظلم من حياتهم.

وقد اختصر الرسول الأكرم ﷺ الدين بكلمة فقال: ”الدِّينُ النَّصِيحَةُ“.

قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ”للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ“.

والرسول ﷺ لم يحصر النصيحة بقوم من المسلمين، ولا بموقع دون موقع. بل اعتبر أنَّ على الإنسان أن يقدِّم النصيحة لكلِّ العالم حيث قال ﷺ: ”إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه“ مسلمين وغير مسلمين، فيتعهد بالنصيحة لهم بما يرفع مستواهم ويقوِّي مواقعهم.

ودعت الشريعة أن نحفظ الناس في حضورهم وغيابهم، فلا نسمح لأحد بأن يتطاول عليهم أو يسيء إليهم، وأن نبدي لهم النصيحة، ونشجِّعهم على طاعة الله تعالى، ونعينهم على أنفسهم بتجاوز أخطائهم وسيئاتهم.. وكم هو جميل قول الإمام : ”كن عليه رحمة ولا تكن عليه عذاباً“.

ووصل الحال بالنصيحة؛ إذا توقف نصح المستشير أو النصيحة على إفشاء السر وكان ملاك النصيحة أو النصح أهم من ملاك إفشاء السر كمن اطلع على أحد عند شخص سلاحاً يريد قتل آخر به، فهنا ملاك النصيحة ونصح المستشير أهم من إفشاء السر فيجب أن ينصحه بإفشاء السر.

وللنصيحة في الإسلام آداباً، وأهمها:

1. أن تكون في السر ما لم يجاهر بها صاحبها.

2. أن تكون بالأسلوب المناسب وفي اللحظة المناسبة.

3. أن تكون بنية الإصلاح والتغيير إلى ما هو أحسن.

4. أن تكون خالصة لوجه الله تعالى.

وعدم رعاية هذه الآداب قد يولِّد في نفس المنصوح نوعاً من العزة بالإثم، ويحاول التعبير عنها في شكل مراء أو جدل ليبرر به ما هو عليه من خطأ، ولا يقبل النصيحة. وإنّ رعاية هذه الآداب من شأنها أن تقضي على المراء أو الجدل، والقصة التالية خير ما يشرح ذلك:

أصاب المأمون بخراسان كانوناً من ذهب مرصعاً بجواهر كثيرة، قيل: إنه كان ليزدجر بن شهريار الفارسي، لا تعرف قيمته لكثرتها، فقال ذو الرياستين الفضل بن سهل: يا أمير المؤمنين، الرأي أن تجعله في الكعبة يوقد عليه العود، والند بالليل والنهار.

فقال المأمون: أفعل. وأمر بحمله إلى مكة.

واتصل الخبر بيزيد بن هارون المحدِّث، فأمر مستمليه أن يقف يوم الخميس عند اجتماع الناس، وأصحاب الحديث فيشكر المأمون، ويدعو له، ويخبر بخبر الكانون، ففعل المستملي ذلك.

فلما سمع يزيد كلامه، صاح وانتهره، وقال له: ويلك، اسكت، إنّ أمير المؤمنين أجلّ قدراً، وأعلم بالله عز وجل من أن يجعل بيته بيت نار، فكبَّ أصحاب البريد إلى المأمون، فأمر بكسر الكانون، وبطل ما دبّره ذو الرياستين «القلائد من فرائد الفوائد، للدكتور مصطفى السباعي: ص 98».

يقول المرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله: ”إنَّ الإسلام يؤكّد ويركّز على النصيحة للمسلمين، وعلى النصيحة للنّاس، ويطلب من الإنسان المسلم أن يعيش النصيحة في عقله وقلبه وفي علاقاته ومعاملاته مع النّاس، وأن لا يعيش الغش بكلّ أنواعه. وفي ظلّ هذا التأكيد، إذا أردت - أيها المسلم - أن تفكر في أمر يخص الواقع العام، فعليك أن تخلص في تفكيرك وتجتهد لتصل إلى الحقّ، حتى تقدّم للنّاس فكراً حقّاً لا باطل فيه، وحين تقدّم تحليلاً سياسياً أو اجتماعياً يتصل بالواقع، فإنَّ عليك أن تجهد فكرك ليكون تحليلك منفتحاً على الواقع دون غش، أي بغير أن تشوبه أيّة غاية شخصية أو حزبية ضيّقة. وهكذا إذا طلبت من النّاس الوقوف إلى جانب شخص في أيّ شأن ديني أو دنيوي، فعليك أن لا تنطلق من أيّ غايات خاصة دعائية لا تتصل بمصالح النّاس العامة، فتدعو إلى تأييده ولا يكون بمستوى المسؤولية، وهو ما يدخل في دائرة الغش“.

ولذا يقول الإمام الباقر: ”اتبع من يبكيك وهو لك ناصح ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش“ فعليك أن تتّبع النصيحة من الناصح حتى لو كانت على خلاف رغبتك، أو كانت مؤذية لك؛ لأنّ فيها الخير والمصلحة لك من موقع الخلوص في النصيحة، بينما تمثّل المشورة من الشَّخص الذي يمارس الغشّ في الرّأي وفي الأسلوب مشكلة لك، حتى لو كانت تنسجم مع رغبتك الذاتيّة.

ومن هذا المنطلق للأبن أن ينصح أباه، وللبنت أن تنصح أمها، وللتلميذ أن ينصح معلمه، وللمأموم أن ينصح الإمام، وللمحكوم أن ينصح الحاكم، وللأدنى أن ينصح الأعلى وهكذا..

فقد روى الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله الصادق: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَقَالَ: ”نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ، الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ“.

وإنّ علياً صدح بها أنه ليس فوق النقد النصيحة، فقال: "وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى".