الناصح المحب
ورد عن الإمام السجاد : کثرةُ النُّصحِ ىدعو إلى التُّهمَةِ» «بحار الأنوار ج 72 ص 66».
النصيحة هو عناية فكرية ووجدانية بمن ترى منه وجها من التقصير أو الاشتباه أو الخطأ، فتتحرك نحو تبيان الوجه الحق والصائب تسديدا لخطاه وحبا لرؤيته على الطريق القويم، بخلاف من يغش الناس ولا يهتم لهم ولا يأبه بما يكونون عليه من أحوال، إذ النصح ينطلق من محبة قلبية تشع بالخير والصلاح والإحسان للغير، فلا يقر له قرار ولا يرتاح له بال وهو يرى غيره يمارس أو يتحدث بما يعد قبيحا ومعيبا أو اشتباها في الرأي، وتعد النصيحة من أجلى مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعد قيمة إنسانية وومضة اجتماعية مشرقة تقوي عرى العلاقات المتماسكة بين الأفراد، بما يسند بينهم التعاون والتكاتف بعد أن يسود بينهم الاحترام والمحبة، فالناصح المحب يأخذ من وقته وجهده ما يقوم به سلوك وفكر إخوانه، ويظهر الاهتمام والعناية بهم لا لأجل مصلحة شخصية، بل كل همه الرقي والسمو بشخصية الآخر بعد التنبيه والتحذير من الخطأ أو وجه التقصير، وأما من تخلى عن هذه المسئولية الاجتماعية والأخلاقية، وأبدى لا مبالاة بما يتراءى أمام عينيه ويهمس به في مجالس يحضرها مما يعد منكرا ومعيبا، فهذا يدل على تحلي هذا الغاش للآخرين بأنه لا يكن لهم محبة حقيقية، أو أنه يمتلك شخصية ضعيفة تخاف من حدوث الخلاف مع من لا يتقبل النصيحة، فلا يتحمل زعل أو انزعاج الغير من كلمة الحق والتوجيه نحو الخير والصلاح.
وينبغي الانتباه لنقطة مهمة في مسألة النصح، وهي أن وقوع شخص ما في خطأ أو لبس واشتباه واضح لا يعني استباحة لشخصيته، وتسلطا عليه يسمح لنا بتوجيه الكلام التوبيخي العنيف أو استنقاصه، أو الحديث معه أمام الآخرين كشفا لعورته المعنوية، أو النقاش معه في أوقات غير مناسبة لا تلائمه، أو التعامل معه وكأنه ارتكب خطأ فظيعا لا يغتفر ولا يمكن التسامح معه أو التوبة منه، فكل هذه الأساليب المنفرة لا تعد من النصح بشيء، وإنما هي إسقاطات شخص يشفي غيظه أو يظهر جهله بهكذا تعامل فج.
فليس كل واحد بمؤهل لأن يكون صاحب منصة توجيه وإرشاد للآخرين، ومن أهم تلك الشرائط هو أن يتخلى عن العواطف العمياء والإسقاطات الشخصية، ويراعي نفسية الآخر وكأنه نفسه فلا يوجه له ما يؤذيه ويسبب له ألما نفسيا جراء الأسلوب الخاطيء في النصيحة له، فبدلا من جبر كسره يبعده عن طريق الصواب وينفره من الحق، ولذا فإن النصح لا يعني تسلطا وعلوا على من أخطأ واستقزامه، وحمل رؤية الأفضلية عليه والتعامل معه بتعال وتكبر، أو يعيره بما صدر منه من خطأ في الماضي فلا ينساه له أبدا، ويبقى طريا على لسانه كلما رأى منه استقامة ومقبولية ومحبوبية بين الناس، فيحاول أن يكسر جناحه مذكرا إياه بما صدر منه، فهذه وسائل رخيصة لإشباع غليله وتشفيه منه، فالنصح الحقيقي يصدر عن محبة للناس ولنشر الفضيلة والسلوكيات الحسنة ودعوة للعمل على تجنب انبساط الرذيلة والقبائح، مع استخدام الأسلوب الحكيم والوازن الذي يردع عن ارتكاب الخطايا ويبصره بآثارها السيئة عليه.
ولا يستلزم توجيه النصح استجابة من الآخر أو اقتناعا بما تحدثنا به، فالأمر لا يعدو عن تكليف نسقطه عن كاهلنا بالنصح له، بغض النظر عن تقبله والتزامه به أو رده، فما أردت غير وجه الله فيما نطقت به، وليتحمل الآخر تبعات تصرفاته وأفكاره دون أن تحمل تجاهه مشاعر سلبية.
ولا ينبغي للناصح أن يتدخل في شؤون الآخرين والتحدث معهم بأدق التفاصيل وطلبها، أو تكرار إرشاده لئلا يظن الغير بأنك تتهمه في فهمه ووعيه، أو تنتقص شأنه وقدرته على التعامل مع واقع الحياة بحنكة وبصيرة بعواقب الأمور، وليكن فحوى ذلك الحديث تبيانا للموقف أو الفكرة وكأنها قصة تتشارك معه في تفحص مسارها ومآلها، وما ينبغي التصرف في ذلك الموقف من قبل العقلاء الراشدين.