الفتاوى الغريبة وحكمتها الخفية
في أغسطس «آب» 2008، نشرت صحيفة «الوطن» تقريرًا للزميل عضوان الأحمري، استعرض أغرب الفتاوى خلال العام. وتنشر الصحافة تقارير مثل هذا بين حين وآخر.
استغراب تلك الفتاوى لا يتعلق بصحة أو خطأ أدلتها. فليس هذا ما يهم عامة الناس. موضع الإثارة والاستغراب هو تطبيق مضمون الفتوى. وأذكر أن وزير الإعلام السابق د. محمد عبده يماني، عرض علي يوماً كتاباً عن الحديث المعروف بحديث الذبابة. ووجدت أن كاتبه قد بذل جهدًا فائقًا في التحقق من الروايات التي تسند الحديث المذكور. لكن المرحوم يماني لم ينسَ الإشارة إلى أن المشكلة لا تكمن في صحة الاستدلال، بل في كون مؤدي الحديث مما يجافي الذوق العام. ولذا يقع موقع السخرية.
أعلم أيضًا أن بعض الفقهاء المعاصرين يختار السكوت عن فتاوى كانت محل إجماع في الماضي، لأن الجمهور ما عاد يقبلها. ومن بينها مثلاً فتاوى تحريم التصوير، والدراسة في الخارج، والعمل في البنوك واقتناء الأسهم، والسفر إلى البلدان الأجنبية، والمتاجرة في الأسواق المستقبلية، وتولي النساء الوظائف القيادية... إلخ.
هذا يشير إلى حقيقة أن المسألة الشرعية لا تنتهي بمجرد إعلان الفتوى فيها. دعنا نقول إن عملية الاجتهاد تتألف في المنهج الموروث من 3 مراحل؛ هي التكييف الموضوعي للمسألة، ثم البحث عن الأدلة ذات العلاقة، وأخيراً انتخاب الحكم المناسب.
لكن التحولات الأخيرة في تعامل الناس مع الشريعة وأهلها، تستدعي إضافة مرحلة رابعة، هي اختبار الانعكاسات المترتبة على إعلان الفتوى. والمرجع في هذا الاقتراح أن المصلحة شرط في الحكم. واشتهر بين العلماء أن «الأحكام تدور مع المصالح وجوداً وعدماً». ومعنى هذا القول إن فتوى الفقيه تسقط من الاعتبار، إذا ترتب عليها تضييع مصلحة عقلائية، أو تسببت في فساد.
ومن أجلى وجوه الفساد التسبب في إعراض الجمهور المسلم عن أحكام الشريعة، أو جعلها موضعاً للسخرية والتندر من قبلهم أو من قبل غيرهم. ولا يختلف الحال بين أن يرفض الحكم لما يتسبب فيه من عسر على الناس أو حرج، كما في القول بحرمة السفر إلى البلاد الأجنبية، أو لأنه في اللفظ أو الفحوى - مخالف للذوق العام أو طبيعة البشر، كما في النهي عن محبة الزوجة غير المسلمة.
لا بد أن بعض القراء سيرى في الكلام السابق معالجة لسطح المشكلة. وهذا رأيي أيضاً. لكن لو أردنا الذهاب درجة واحدة في العمق، فقد نجد أن جوهر المسألة ليس رد فعل الجمهور على غرابة الفتوى، بل في أن بعض الفتاوى تناقض حكم العقل أو تهدر المصالح الحالية للناس.
لا يتسع المجال للتفصيل في هذا. وزبدة القول إن المشكل الجوهري يكمن في الفرضية القائلة إن بعض الأحكام الشرعية ينطوي على حكم خفية لا يدركها العقل، وإن على المؤمن أن يأخذ بها تعبداً وتسليماً، لأنها حكم الله، وهو الأعلم بما يصلح عباده وما يصلح لهم.
لا يوجد أي دليل معتبر على صحة الإلزام بالفرضية المذكورة. فأحكام الشريعة، لا سيما الموجهة للمجتمع كنظام، غرضها تحقيق مصالح قابلة للتشخيص العرفي، أي أن مضمونها ظاهر لعامة العقلاء. بديهي أن وضوح المصلحة العقلائية، يستدرج حكمها، لما ذكرناه من أن الأحكام تدور مع المصالح نفياً أو إثباتاً. ولنا عودة إلى الموضوع في وقت آخر إن شاء الله.