الفطور والصدى
هناك مقياس مهم يسمى مقياس الصدى، يُستخدم هذا المقياس لاكتشاف مجموعة من الأشياء كالحقول النفطية تحت الأرض، الكشف على الإنسان بالموجات الفوق صوتية، قياس عمق البحار والمحيطات وَصيد الأسماك وتعيين تجمعات السمك، هناك كثير من المؤلفات التي تناولت موضوع الصدى من الناحية العلمية وذكرت بما لا مزيد عليه استخداماته، ألا أن أحداً منها لم يتعرض لاستخدام علمي مهم وهو اكتشاف الموظفين الذين يتخذون أحد المكاتب تجمعا لإفطارهم في إحدى المنظمات الخدمية، بحيث يتردد صدى قهقهاتهم عالياً في جميع الأرجاء الفارغة دونما خجل من جمهور المنتظرين الذين لا يملكون حيلة إلا الحوقلة والتذمر، الظريف المؤلم في الأمر أن يبرر مدير هؤلاء هذه «اللطعة» وطول الانتظار بأن الموظفين لا يستطيعون العمل دون إفطار، ما يعني أن واجبك أيها المراجع هو تقدير هذه الوجبة المهمة والإذعان بأحقيتهم لها في هدوء وسكينة ودون إزعاج.
في كتابه «من البادية إلى عالم النفط»، ذكر علي النعيمي وزير البترول الأسبق قصته مع العمل الحكومي حينما تلقى عرضا وظيفيا من وزارة المياه بعد رجوعه من الولايات المتحدة بشهادة الماجستير في الجيولوجيا، كان العرض جيدا بالشكل الذي جعله يوافق عليه مبدئياً ويحزم أمتعته من أرامكو التي غادرها في إجازة إلى الرياض، حينما باشر النعيمي العمل صباح اليوم الأول وتحديدا السابعة والنصف لم يجد موظفاً واحداً أو حتى نصف موظف!!، سبب له الأمر صدمة كانت مع أسباب أخرى كافية لعودته إلى أرامكو من جديد، النعيمي سعودي وليس كائنا من الفضاء، وموظفو الوزارة حينذاك سعوديون أيضاً، الفرق بينهما في جانب الانضباط هو فقط الإدارة، تعلم النعيمي من أرامكو الالتزام حينما كانت إدارتها منضبطة جداً في هذا الجانب في حين لم يتعلم موظفو تلك الوزارة ذلك، في هذا السياق ما زال صدى كلمة وزير الخدمة المدنية السابق خالد العرج تتردد في الآذان حينما صرَّح بأنَّ إنتاجية الموظف السعودي هي ساعة واحدة فقط بناءً على دراسة أُجريت لهذا الأمر، بعيداً عن تقييم مدى دقة هذه الإحصائية فإنَّ ذلك إن حصل لا يعبر بأي حال من الأحوال عن مشكلة في المواطن، المشكلة التي يعبر عنها بوضوح هي في الإدارة والإدارة فقط.
حتى الساعة هناك من أرباب العمل من يدعي أنَّ السعودي «مو حق شغل» ولا يعتمد عليه في الوظائف ذات الجهد العالي، هذا الكلام في تصوري غير صحيح تماما، الموظفون الذين شاركوا في حفر آبار النفط والعمل في قيظ الصحارى وفي البحار في بدايات عهد المملكة هم سعوديون، قامت هذه البلاد على سواعدهم وعرق جبينهم، كان هؤلاء بناةً حقيقيين حينما امتلكوا الإدارة الجيدة التي تُبرز قدراتهم، يمكن لي الآن أن أدعي بضرس قاطع أن أي إنسان في هذا العالم لديه نفس الاستعداد للفساد والتسيب مادامت الأبواب مشرعة على مصراعيها. لذلك، لو اجتمع سويديون أو يابانيون في إدارة سيئة جدا لرأيت «سماط المندي» على بعد سنة ضوئية في تلك الإدارة والمراجعين على الأبواب، ولو توفر للسعوديين إدارة جيدة فسيكونون مثل «بقية خلق الله» جادين ومنضبطين بل ومبدعين أيضاً.