الأئمة في هداية الأمة
إن النظر إلى الإنجازات الإنسانية المتحققة على مدى العصور يورث رؤية مستشرفه تتخطى حدود الزمكانية، فهي في حقيقتها تستبطن أمور عدة ينتهجها الإنسان لتعزيز مواطن القوة ويعمل على تقويم ما يحتاج إلى ذلك فمن القضايا الرئيسية التي ينبغي على الإنسان أن يعنى بها ويوليها بالغ الأهمية هي سيرة العظماء الذين أسهموا في صنع وتغيير المسارات البشرية المظلمة، وإحالتها إلى هالة من نور فثمن ذلك كان باهضاً جداً، قدموا الأرواح وكل ما يملكون قرابيناً في سبيل ما يحقق للإنسان إنسانيته فما كان منهم إلاّ أن ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ﴾ [1] بالقول وبالعمل وبكل وسيلة توصل إلى الهدف المنشود، حتى نالوا ﴿رِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [2] .
فتلك الحالة تصل إلى أعلى مراتبها عندما تكون النوبة للأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، فتظهر بأ جلى صورها لأنها النموذج الحيّ الذي يمثل الإنسان الكامل على وجه هذه البسيطة ففي حياتهم المضيئة جوانب إراءة وهداية للطريق على حدٍ سواء، تسلك بالإنسان الحر إلى دروب السعادة التي ينشدها في الدارين، وذلك يحتاج إلى دراسة متقنة ومقننة لحياتهم
- سلام الله عليهم - بل إلى القراءة الشاملة التي تتضمن ممارساتهم إزاء الأمة الإسلامية لدفع عجلة السمو والرفعة لها على ضوء الموازين الإلهية والتي تتمثل في - القيادة العلمية والسياسية والأخلاقية - فالنظر إلى تلك الأدوار على أنها وحدة واحدة غير قابلة للتفكيك والتجزئة، تكفل لنا الرؤية الصائبة في فهم مسار الأئمة ، وبذلك ترتفع إشكالية التعارض الظاهري في مواقفهم التي توهم بوجود أهداف متعددة ومتباينة لكل واحد منهم - صلوات الله عليهم أجمعين -
فمن هنا تكمن أهمية القراءة لتاريخ العلوم والمعارف الإنسانية والعمل على استنطاقها، إذ أن الحاضر الذي يعيشه الإنسان ليس إلاّ وليد أحداث ومواقف سالفة عاشها النوع الإنساني حتى أنجبت لنا هذا الوليد بالصورة التي هي عليه، والمستقبل ليس مستثنى مما طرأ على الحاضر بل خاضع لذات الأمور، فالإسهامات التي تتشكل جراء المواقف والأحداث كفيلة بأن تصنع مستقبلاً منسجماً ومقدماته.
إن هذا المعصوم شخص عاش على مدى مائتين وخمسين سنة فكانت تحركاته تحرك إنسان واحد ولكنه يتعاطى مع الموضوعات بحسب ما تقتضيه المرحلة وبا سلوب موائم معها، ومن هنا يمكن لنا أن نفهم التنوع الموجود في السلوكيات من قبل ذاك الإنسان المعصوم الذي تكون في حركته حكمة ترتجى وفي توقفه تكامل يبتغى، والهدف بين ذلك واحد.
وفي ذلك الصدد يذكر الشهيد المطهري: [3] " إذا كان عندنا معصوم واحد عاش عشرين أو ثلاثين عاماً أو عاش مائتين وخمسين سنة، فمن الطبيعي أنه في الفرض الأول لم تطرأ تحولات وتغييرات وموضوعات مختلفة وبمقدار كافٍ نتمكن معه من ملاحظة طريقة تعامل المعصوم معها، بحيث نصبح ماهرين بكيفية تطبيق قواعد الدين الكلية على الموضوعات المختلفة، وذلك لأن في الدين جهة بيانيّة وأخرى تطبيقية عملية.
وأما في الفرض الثاني وهو ما إذا كان عندنا معصوم ومقتدى لمدّة مائتين وخمسين عاماً، فإنه يواجه أنواع القضايا المختلفة ويوضح لنا طرق التعامل معها، وبذلك نتمكن أكثر من معرفة روح التعاليم الدينية وننجو من الجمود والجفاف الذي يؤدي إلى تفسير المعلولات بغير عللها، وإلى الخلط بين الأصيل وغير الأصيل في الشريعة "
فمن هنا تتضح لنا الحكمة في التنوع القائم في سلوك الأئمة - ع - بل يمكن لنا القول أن ما هو من خصوصيات القرآن الكريم هو ثابت في حق الأئمة
- ع - فكما لا يحق لأحد أن يأخذ بعض القرآن ويترك بعضه ويصبح كمن ﴿جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [4] فينبغي مراعاة ذلك في حق الأئمة - ع - لأنهم ”عِدل القرآن“، ”إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟“ [5]
فيحق للمتأمل أن يديم النظر في الحديث الوارد ويسأل نفسه، لماذا قرن أهل البيت - ع - بجانب القرآن الكريم؟
فمن زاوية يمكن القول أنه: ورود ذكر أهل البيت عليهم سلام الله إنما جاء ليلفت النظر إلى أهمية الرجوع إليهم في فهم حقائق القرآن الكريم ومعرفة روح المعنى، «وليس لكونهم علماء لهم اجتهادهم» [6] وإنما دلالة الاقتران بالقرآن أن يثبُتَ لهم ما ثَبَتَ للقرآن من كونهم الفرقان بين الحق والباطل، لا سيما في ظل وجود المنحرفين والمحرفين لتلك المفردات القرآنية وتفريغها من محتواها الحقيقي للوصول إلى المطامع الشخصية وتلبيس الحقائق على العامة من الناس.
فالذين تربعوا على دسة الحكم آنذاك كانوا يدركون أهمية البعد الديني لدى الناس إذ أنه أمر فطري متجذر فلا يمكن استئصاله لذلك عمدوا على تحريفه من خلال إضفاء المشروعية على الأعمال التي يقومون بها من جهة، والعمل على تشكيل مجموعة من المتملقين الذين يُحسبون في عداد المثقفين ليروجوا للأفكار التي تصب في مصلحتهم من جهة أخرى، فالضامن لبقائهم على منصة التتويج والرئاسة، هي ذاك، فإذا ما رجعنا للتاريخ يمكن لنا أن نقف على شواهد ومؤيدات لما تم ذكره.
ومن هنا تبدأ مهمة الأئمة - - في المجابهة، لذلك فكل الأئمة كان لديهم عمل سياسي دون استثناء، فالعمل الذي كانوا يقومون به من تعريف الناس بروح القرآن وإعادة المضامين الحقيقية لتلك المفردات، والمناظرات الكلامية التي كانت تعقد إنما في جوهرها تصب في ذلك الهدف، إذ أن ذلك يشكل تهديداً حقيقياً للظالم فيلجأ إلى أساليب تشتيت الناس عن مركز القوة التي يستمدون منه، من خلال السجن تارة أو التصفية الجسدية تارة أخرى.
[7] "ماذا تعني المواجهة السياسية أو المواجهة الحادة السياسية التي ننسبها نحن للأئمة - ع -؟ المراد هو أن مواجهات الأئمة المعصومين - ع - لم تكن مواجهة علمية واعتقادية وكلامية من قبيل المواجهات الكلامية التي تشاهدونها في طول هذه المدة في تاريخ الإسلام.... إن مقصود الأئمة - ع - من هذه الجلسات.
وحلقات الدرس وبيان الحديث ونقل المعارف وبيان الأحكام لم يكن إثبات المذهب الكلامي أو الفقهي التابع لهم فقط،......... المواجهة السياسية هي عبارة عن المواجهة بهدف سياسي، هو تشكيل
- الحكومة الإسلامية - " وكما ورد في القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [8]
”ما هو القسط؟ القسط يعني استقرار العدالة الاجتماعية في المجتمع، من يستطيع أن يفعل هذا العمل؟ إن تشكيل المجتمع مع العدالة والقسط هو عمل سياسي، وهو عمل مديري البلد. هذا هو هدف الأنبياء، جميع الأنبياء الإلهيين - ع - جاؤوا من أجل السياسة ومن أجل تشكيل النظام الإسلامي“ [9] .
وجدير بالذكر أن نميّز بين العمل السياسي والمواجهة المسلحة، إذ أن الثاني إنما هو أداة منضوية تحت الأول - العمل السياسي - وليست في قِباله كما قد يظن.
إذن فالأئمة - ع - كان لديهم هدف أساسي وهو تشكيل النظام الإسلامي الذي يعني حاكمية الإسلام على جميع شؤون الحياة، وإن كان ذلك المطلب له أهداف قد تختلف من «بعيدة - متوسطة - قصيرة» المدى.
”لا نستطيع طبعاً أن نقول إنهم كانوا يريدون أن يقيموا الحكومة الإسلامية في زمانهم، يعني كل إمام في زمانه، بل كان يوجد هدف للمستقبل المتوسط الأمد والطويل الأمد والقريب في موارد ما“ [10]
لكن ذلك العمل يحتاج إلى وجود مجتمع إسلامي قادر على الإٍسهام في تطبيق ذلك النظام وأن لا يكون من العوائق التي تحول دون تحقق النظام الإسلامي وتلك الحاكمية، وذلك يتأتى من خلال النفوس المؤمنة، لكن الواقع آنذاك كان خلافاً لهذا الأمر مما اضطر أئمة أهل البيت - ع - أن يعملوا على تشكيل أهداف تعيد الإسلام من غربته، وتموضعه في نفوس الناس بالشكل الصحيح.
”بعد أن أحس الأئمة - ع - وفي محيط الإمامة ومحيط أهل البيت أن هدف النبي - ص - لم يتحقق، وهو أن: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [11] وبعد أن رأوا أن تشكيل النظام الإسلامي وتشكيل العالم الإسلامي كما أراد الأنبياء - ع - قد نسي كلياً بعد الصدر الأول للإسلام، وأخذت الملكية مكان النبوة والإمامة.....“ [12]
فكانت الأهداف الأساسية هي [13] :
- تبيين الإسلام بالشكل الصحيح، فالإسلام بنظر الذين كانوا على رأس السلطة على مدى سنوات طوال كان شيئاً ممانعاً.
- بيان مسألة الإمامة. الإمامة هي ولاية أمر المجتمع الإسلامي، والمسألة الأساسية لم تكن واضحة لمسلمي ذلك اليوم، وكانت قد حرفت عملياً.
فالتصور الذي كان موجوداً لم يكن تصوراً صحيحاً عن مفهوم الإمامة، بل أن الناس لم تكن لديهم المعرفة بالمواصفات التي ينبغي أن تتوفر في الإمام إلى الحد الذي جعلهم لا يولون أهمية لكون الإمام ملوثاً بالمعاصي [14]
" لم تكن مسألة الإمامة واضحة للناس، كان الناس يظنون أن إمام المسلمين وحاكم المجتمع الإسلامي يمكن أن يكون ملوثاً بهذه المعاصي والمخالفات والمظالم والأعمال المخالفة لصريح القرآن والإسلام، ولم تكن مسألة مهمة بالنسبة للناس. كانت هذه مشكلة كبيرة؛ وهي بالنظر إلى أهمية مسألة الحكومة في مجتمع ما، وتأثير الحاكم في اتجاه المجتمع أكبر خطر على العالم الإسلامي. لذا كان الأئمة - ع - يرون أنه من الازم أن يبينوا للناس أمرين:
- أن يبينوا خصوصيات الإمام يعني ذلك أن يعرفوا الحاكم الإسلامي للناس: أن الإمام يمتلك الشروط الآتية، والحاكم الإسلامي لدية خصوصيات وعصمة وتقوى وعلم ومعنوية ويتصرف على النحو الآتي مع الناس ويقوم بالعمل في سبيل الله.
- أن يحددوا من هو الشخص الذي يمتلك هذه الخصوصيات اليوم وكانوا يطرحون أنفسهم كنموذج له. وهذا عمل كبير للأئمة - ع - وواضح أنه أحد أهم الأعمال السياسية والإعلامية والتعليمات الأساسية. " [15]
فالعمل الذي قاموا به الأئمة - ع - إنما هو من أكبر الأعمال التي يمكن أن تتخذ آنذاك وأكثرها حساسية، إذ أن تهيئة المجتمع الإسلامي كانت الخطوة الأهم للمعبر والوصول إلى بناء ذلك الكيان الإسلامي الذي يحقق حاكمية الله على أرضه، فالعوائق كانت كثيرة جداً ولعل أبرزها هي الممارسة العملية التي اتخذها طغاة ذلك العصر في إبعاد الناس عن مركز القوة الذي يستلهمون منه ويستمدون الفكر الممانع الذي يهدد المصالح الشخصية والمنافع.
فلذك لم يكن النزاع القائم والمفتعل من قبل السلاطين نزاعاً على وجود كمالات معنوية رفيعة لدى الأئمة - ع - وإنما القضية أبعد من ذلك، أرادوا أن يجزئوا منظومة ”الإمامة“ التي تشتمل على القيادة السياسية والفكرية والأخلاقية، وعزلها أي - الإمامة - من ناحية التطبيق في البعدين الأخريين.
”كثيراً ما كان يتفق أن يكون هناك أشخاصاً في المجتمع في زمان الخلفاء من أهل الزهد والعلم ومعروفون بالتفسير والعلم وأمثال هذه الأشياء، ولم يكن الخلفاء يعارضونهم بل كانوا مخلصين لهم ويبدون لهم المودة ويذهبون إليهم، ويطلبون منهم النصيحة لماذا؟ لأنهم لم يكن لديهم دعوى سياسية في مقابل الخلفاء، فأمثال الحسن البصري وابن شبرمة وعمرو بن عبيد هؤلاء الكبار من العلماء الذين كانوا محل توجه وقبول الخلفاء........“ []
فالعمل الذي قاموا به الأئمة - ع - لم يكن بدعاً من الفعل وإنما هو استمراراً لما قام به النبي - ص - في ترسيخ تلك القواعد والعمل على تهيئة الأمة ويتجلى لنا ذلك في حادثة غدير خم التي تحمل في جنابتها كثيراً من الدلائل ولعل من أبرزها هو ”البعد الذي هو محط النظر والبعد العالمي الإسلامي والشامل للفرق الإسلامية وغير المختص بالشيعة هو أنه لو فرضنا أن النبي - ص - في هذا الإعلان الذي صدرت فيه هذه الجملة لم يرد أن يبين حكم أمير المؤمنين - ع - بلا فصل، فعلى الأقل هو كان يريد بهذا البيان يقر ويثبت مولاة المسلمين لأمير المؤمنين وعترته - ع - وارتباطهم العميق. وسبب ذكر العترة إلى جانب القرآن في خطبة منى وفي حديث الثقلين الذي صدر من النبي - ص - مرات عديدة وفي حديث الغدير حيث كان التأكيد على أمير المؤمنين - ع - وشخصه تثبيت هذا الارتباط، وأن يقدم إلى الناس وإلى الأجيال القادمة على مدى الزمان نموذجاً كاملاً عن الإنسان المسلم، عن الإنسان المقبول إسلامياً............ أن يعرف أمير المؤمنين - ع - للناس كنموذج كي يرتبط به الناس - سواء أهل ذلك الزمان أو الأجيال القادمة -.......“ [17]
فحري بنا أن نمعن النظر ملياً في أحوال أهل البيت - سلام الله عليهم - لنستلهم منها الدروس والعبر التي تكون بمثابة المصابيح المنيرة للطريق.