آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 12:36 ص

إعادة بناء أمة

حسين نوح المشامع

قال الله تعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:

﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚقُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ، ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ «35» يونس.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل».

كما وعدنا ابنتنا العزيزة بقيادة هذه الحلقة إعدادا وإلقاءا، وسوف نساعدها قدر الإمكان لتتمكن من تقديم الحلقة على أكمل وجه.

كان لقائنا في أحد ليالي شهر رجب المرجب، شهر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكان مجلسنا هذا في صالة البيت تحت مكيفة الهواء، حيث لم نعد نحتمل حرارة الطقس.

بدأت ابنتنا الغالية حديثها بعد الاستئذان والتحضير النفسي قائلة:

بعد القراءة الجيدة والمراجعة المستمرة ارتأيت أن يكون موضوعنا لهذه الحلقة عن أفكار بعض الناس الذين كانوا حول الإمام الحسين عند عزمه على الرحيل إلى العراق وثم مواجهة القوم وجها لوجه.

جيد جدا يا ابنتي العزيزة أكملي، لقد أحسنت الاختيار.

شكرا يا والدي على هذه الثقة وهذا الإطراء.

قبل الحديث عن موضوعنا الأساس لا بد من إعطاء مقدمة مختصرة تساعدنا في فهم فكرة وموضوع الحلقة.

تفضلي يا ابنتي.

شكرا يا والدتي، كما نعلم أن الناس يختلفون في تقيمهم للأمور وعواقبها. فالبعض ينظر إليها نظرا ماديا دنيويا بحتا، لذى لا يقوم بأي عمل ولو كان لوجه الله ظاهرا، إلا بعد تقدير عواقبها المرجوة، والشرور التي يمكن دفعها عنه، في هذه الحياة الدنيا. وعامة الناس يصفون هؤلاء بالأذكياء... العباقرة... العمليون، وما شابه من الألقاب.

وآخرون ”وهم قلة“ ينظرون إلى أعمالهم بعين الله، فلا يقومون بأعمالهم هكذا جزافا، بل ينظرون إلى ما تتركه من الأثر الطيب على الآخرين، في الحياة الدنيا، وبعد رحيلهم عنها. والناس يصفون هذا التصرف بالغباء تارة، وعدم العقلانية، وعدم العملية تارة أخرى.

وكذلك الذين كانوا حول الإمام الحسين وقرأوا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ولم يكونوا بالقليل، ولكن ليس كلهم كان يحفظها، لذى نرى عدد الحفاظ قليل، ويمكن حصرهم. ولا كل من حفظها حافظ عليها نصا ومعنى.

هل هناك مثالا على ذلك يا أختي الحبيبة؟

نعم يا أخي الحبيب، نراهم مثلا قد اختلفوا في فهمهم للآية القرآنية: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ «4» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ «5» الضحى. والتي نزلت عندما كان رسول الله ﷺ على مشارف لقاء ربه الرحيم الودود، فخير بين البقاء في الدنيا أو اللحاق بالغفور الكريم، فطلب استشارة الملك جبريل، فنزلت هذه الآية.

وكيف فسروها يا ابنتي العزيزة؟

يعتقد المحققون أن الآية الكريمة قد استغلت أسوء استغلال، وتم تحوير مفهومها وتوجيهها إلى أهل بيت العصمة وأنهم قد حرموا من الحكم الدنيوي نهائيا، لحكمة وخير أخروي أراده الله لهم.

هذا مثالا من القران الكريم، فهل هناك مثالا من الحديث النبوي، يا عزيزتي؟

نعم يا أمي، لم يتمكن البعض منهم استيعاب معنى قول رسول الله ﷺ «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط»، والذي يعني أن الأمام الحسين خليفة جده وممثله الشرعي، ومن ينفذ مشروعه الذي لم يستطع هو إتمامه لقصر حياته الشريفة، وللأسباب الموضوعية التي كانت قائمة في ذلك في الزمان.

ولما ذلك يا بنت أمي وأبي؟

نعم يا ابن والدي ووالدتي، وذلك لأنهم بشر مثلنا ينتابهم ما ينتابنا من مؤثرات نفسيه وأحوال مجتمعية وضغوط دنيوية.

ومتى كان ذلك واضحا يا نور عيني؟

تسلمي يا والدتي، لقد كان هذا واضحا جليا عند قيام الأمام الحسين بحركته المباركة، حيث الناس حوله لم يفهموا المغزى من تلك الحركة، ووقفوا في وجهه بدل من الوقوف معه ونصرته، رغم ما يرون من جبروت وتعنت بني أمية. ففهموا أن هذا الصراع هو امتداد للصراع الذي كان بين الحيين في الجاهلية، وان كلا من الطرفين يسعى إلى الحكم من طريق مختلف، فبني أمية وهم الطلقاء الذين لا يحق لهم الحكم، يريدوا الوصول إلى الحكم لأنهم قرشيون. والإمام الحسين هو ابن رسول الله ﷺ وامتداده الطبيعي، ومن الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرها تطهيرا، ويسعى إلى الحكم لأنه وريث جده المصطفى ﷺ.

هل تستطيعين يا ابنتي إعطائنا نظرة عامة عن الفرق بين فكر الإمام الحسين وفكر من كان حوله؟

نعم يا أبتي، لقد كان هدف الإمام الحسين مخالفا ومغايرا عن تفكير من كان حوله. فكان الحسين ينظر بعين الله ويعمل على إتمام مشروع جده رسول الله ﷺ بما يرضي رب العالمين. والآخرون لا يفهمون إلا الواقع وما يمليه عليهم المجتمع من حولهم، فنظرهم دنيوي بحت، ويبنون أحكامهم على ما يرون من نتائج دنيوية.

وكان الإمام بين السندان والمطرقة، فإما أن يقبل بحكم الأمويين ويتنازل لهم ويصالحهم، فيضيع دوره كإمام للأمة وخليفة لجده رسول الله ﷺ، فتضيع تبعا لذلك امة جده ويضيع دينها وتهدر كرامتها. بل يعتقد المحققون أن لو كف عن بني أمية واتقادهم، ولم يعلن مخالفته العلنية لهم لبقي في القلب من ذلك هم وغم وترقب. فإما أن يقضي بالسم غيلة كما قضى أخيه الإمام الحسن من قبله، وكما قتل أبنائه وأحفاده من بعده. أو يبقى على قيد الحياة، لكن كما قال أخيه الإمام الحسن : «يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر، يمن بها وعقبه على الحيّ منا والميت». وأما أن يرفض الرضوخ والاستسلام لبني أمية، فيواجه القتل هو ومن لحق به، وتسبى وتشرد عائلته من بعده.

طبقا للقوانين المادية، وهو ما فهمه بعض من كان حوله، أن ما قام به الإمام هو مجازفة كبيرة ومخاطرة وخطأ فادح، لأنه لن يصل إلى الحكم، الذي يعتبره هؤلاء الهدف الأساس، بسبب قلة الأنصار وكثرة جيش الأموي عدة وعتاد.

كيف كان ينظر الإمام إلى وضعه ذاك، يا ابنتي؟

الإمام الحسين كان ينظر إلى ما جرى عليه هو وأصحابه وعائلته لا يساوي شيء أمام ما يراه يحدث ويكون واقعا في مستقبل الأيام. فالذي يراه الآخرون هدف نهائي، يراه الإمام وسيلة لهدف اكبر وأبعد تأثيرا.

وما قام به الأمويون للوصول إلى الحكم والتشبث به، والذي راؤه هدفا نهائيا لإعادة أمجادهم الجاهلية التي قضى عليها بروز شمس الإسلام إلى الحياة الدنيا، ويحدده قول أبو سفيان وهو يركل قبر الحمزة عم النبي ﷺ برجله: «قم يا أبا عمارة، إن الأمر الذي أجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا اليوم يتلاعبون به». ولكن قتلهم للإمام الحسين ومن معه من الأخوان والأصحاب والأبناء، وتشريد وسبي نساءه، كان الإسفين الذي دق في نعش ذلك الحكم وتلك الدولة، التي انتهى ذكرها وذكر حكامها من التاريخ والواقع المعاش.

وكيف نستطيع فهم ما قدمه الإمام الحسين ، يا أختي العزيزة؟

يا أخي الغالي، لا نستطيع فهم ما قدمه الإمام الحسين من تضحيات كما ينبغي، دون مراجعة ما قام به جده وأبيه عليهما السلام من قبله.

وماذا قام به جده رسول الله ﷺ، يا ابنتي الحبيبة؟

لقد عفى رسول الله ﷺ عن جبابرة قريش المستكبرين عندما فتح مكة، رغم أن قانون المنتصر الذي يفهمه هؤلاء، هو الانتقام منهم والتنكيل بهم.

وماذا فعل أبيه أمير المؤمنين ، يا عزيزتي؟

يا أمي العزيزة، لقد عفى أمير المؤمنين عن أصحاب الجمل الناكثين لبيعته والشاقين لعصى الطاعة والمفرقين لوحدة الجماعة، بعد أن هزمهم وفرق شملهم، ومنع من سلبهم والاستحواذ على ممتلكاتهم، مما جعل حتى أقرب أصحابه ينتقدونه.

الآن نأتي يا ابنتي إلى السؤال الذي يجب أن يطرح، ما هو هدف هؤلاء الأبرار ، أو ما هي النتيجة التي رأوها تتجسد في مستقبل الأيام؟

أجبر ما قام به رسول الله ﷺ جبابرة أهل مكة أن يرددوا الشهادتين يوميا حتى يومنا هذا رغما عنهم، كما أقبلت دراريهم على الإيمان بالدين الإسلامي عن قناعة، وهذا يعني بناء امة. بل ويعترف له غير المسلمون بأنه أفضل مصلح وأكبر شخصية مؤثرة على مر التاريخ.

وماذا قام به أمير المؤمنين ، يا ابنتي الحبيبة؟

يا والدتي، أمير المؤمنين هو تلميذ ووصي رسول الله ﷺ وما قام به هو إعادة وبناء امة، لذا بقى ذكره يردده جميع المسلمون على اختلاف مذاهبهم إلى هذا اليوم، وان يعترف له غير المسلمين بأنه اكبر منظر قانوني وإنساني.

وما هي نتيجة ما قام به الإمام الحسين ، يا عزيزتي؟

يا عزيزي، ما قام به هو إعادة بناء «1» امة جدة، أي إعادة المسلمين إلى مدرسة الرسول ﷺ وال البيت ، ومن ثم إعادتهم إلى طريق الإسلام الحق الصحيح مرة أخرى، بعد المحاولة الجاهدة من بني أمية لإرجاعهم إلى حكم الجاهلية الأولى. وان يبقى ذكره إلى يومنا هذا تلهج به امة مليونية، تتعجب من ولائها الأمم الأخرى، بل تحسدهم وتتمنى لو انه واحدا منها، فتقيم منبر له في كل بقعة من الأرض، وتدعو الآخرين إلى ديانتها باسمه.

وبوصولنا إلى هذه النتيجة يكون بحثنا قد انتهى، وأوفينا البحث حقه.

أحسنت يا ابنتي، انه عملا تستحقين عليه الشكر والامتنان.

صدقت يا حاج، فلقد قامت ابنتنا الحبيبة بجهد تشكر عليه. لكن من سوف يدير حلقتنا القادمة؟؟

أظنك تعلمين وحسب الدور الذي بدأناه من سيكون، أليس كذلك!

 

[1]  «ديمو تاريخ الرسول المصطفى ﷺ والحسين باسم الحلي