مدرسة التسامح عند الإمام السجاد (ع)
المهمة الكبرى التي ألقيت على عاتق الأئمة الأطهار - كامتداد لخط الأنبياء - هو هداية الناس وإرشادهم للصلاح والاستقامة، وهذه المهمة التربوية للنفوس تضمنت استثارة العقول بكنوز الحكمة التي ينطقون بها ، حيث يستصبح الناس بهدى توجيهاتهم والتي شملت جميع أبعاد الحياة والوقائع والأحداث، بما لا يدع المجال للمؤمن أن يقع في حيرة أو ارتياب عند مواجهته للصعاب والتحديات، وقد تمسك بمفاتيح حل المشكلات ومواجهتها بالنفس الاصطباري والهدوء النفسي والعمل الدؤوب؛ ليكون المرء على بينة ومحجة بيضاء من أموره إن تشابكت الفتن وثارت نائرتها.
كما أن السيرة العطرة لهم نضاحة بمفردات القيم الأخلاقية التي تكامل النفس وتعلو بها نحو قمة التزكية من شوائب القبائح والأحقاد، فقد جسدوا مكارم الأخلاق والفضائل الحميدة في كل مواقفهم وتصرفاتهم، بما جعل الناس يرونهم الكتاب الناطق لنهج الرشاد والخشية من الله تعالى، ولذا انجذبت القلوب وهامت بمعين عطائهم المعنوي الذي يبلسم جراح النفس وهمومها، ويضع المرء على سكة الفهم الواعي لحقيقة الدنيا والدور الإيجابي الذي يؤديه الإنسان، وتكونت ملكة ترسخ في النفس مقبوحية الرذائل فتعتصم شيئا فشيئا عن إتيان الموبقات، كما تتنفس عبق الأفعال والسلوكيات الحسنة وترغب في ملازمتها.
ومن تلك المفردات القيمية المثلى التي سعى الإمام السجاد لترسيخها في الأذهان هو مفهوم العفو والتسامح أمام الإشكالات وسوء الفهم والخلافات البسيطة التي تحدث بين أفراد المجتمع، إذ أنها تشكل بذرة النزاعات والقطيعة والكراهيات، وتأتي بويلات تفكك عرى التكاتف والتعاون بين الناس، وتضعف حالة الازدهار التنموي للمجتمع وذلك أنها قائمة على روح الثقة والتفاهم والتماسك بين الأفراد، إذ يمثل كل فرد جزءا من خطة العمل وتذليل العقبات والتخطيط للمستقبل الواعد، كما أن الخلافات تسبب هدرا كبيرا لطاقات الأفراد والتي يبذلونها حينئذ في تغذية الخلافات وتسعيرها وتسقيط الآخر ومهاجمته بكل عنف.
الروح الأخلاقية والراحة النفسية تقتضي أن يكون الإنسان متصالحا مع نفسه أولا، بمعنى أن يمتلك نهجا وخطة سير لأهداف يسعى لتحقيقها، فكل موقف إيجابي وإنجاز يعمله يحقق لنفسه رقيا في طريق النجاح والفلاح، والدخول في صراع مع النفس من خلال الأفكار السوداوية والتخيلات الشريرة التي تحيق السوء بمن أساء له، لن تجر عليه إلا الخيبة وضياع الوقت وهدر الجهود، ولن تأتي إلا بالفتن والبغضاء التي تبعد المرء تماما عن طريق الخير والصلاح.
ويكفي المرء قناعة راسخة بأهمية العفو والتسامح، وما يرشح منه من نتائج طيبة على مستوى الفرد والمجتمع، هو ما كانت عليه سيرة الإمام السجاد ومقابلته للإساءة بالتلطف والإحسان والمسامحة، مما رسخ مفهوم العفو والصفح وانتشار عبقه بين الناس، فلم يجاز الأئمة الأطهار من أساء لهم بمثله، بل أظهروا كل علائم الترفع عن كل مفردات الإساءة كالشتم أو التجلهل أو الإقصاء أو الحقد - وحاشاهم عن ذلك -، بل وأظهروا جميل المعروف والعطاء لهؤلاء المسيئين، بما حول وبدل النظرة الخاطئة عند البعض بسبب التشويش الإعلامي وبث الشائعات الكاذبة عن أهل بيت الحكمة والعفو، إلى إظهار احترامهم ومحبتهم وعشق سيرتهم.