التفرغ للكتابة.. عزلة لإنتاج الصخب
لكتابة، عمل شاق يحتاج إلى طاقة هائلة وإمكانيات استثنائية، ورحلة خطيرة تحتاج إلى خريطة وبوصلة وزاد وفير. هي أشبه بعملية مخاض عسير، تتعاظم آلامه وتقلصاته، كلما حانت لحظة الولادة، لتخرج الدهشة ملفوفة في قماشة الوجود.
والكتابة في عصر الصورة وطغيان النت، تُصارع من أجل الظفر بما تبقى من عُشاق رائحة الورق. كثيرة هي المعوقات والتحديات التي تُزاحم الكتابة الأصيلة/ الرصينة، بعضها بنيوي من داخل الدار، وبعضها الآخر جانبي من اختراقات الجار، والكتابة في كلتا الحالتين، تُعاني من غياب الوهج وفقدان المريد.
منذ عقود طويلة، أدرك صنّاع الثقافة في أوروبا أهمية ”تفرغ المبدع“، خاصة المثقف الذي يمتهن الكتابة والتأليف والبحث، وتحولت منح التفرغ الأدبي التي تنتشر في الكثير من الدول الأوروبية، إلى ورش حيوية تنتج الثقافة والأدب والمعرفة والدراسة والبحث، وتُقدم للبشرية ”خلاصة الوعي الإنساني“ الذي تصنعه خيرة العقول البشرية.
لماذا لا يحصل المبدع العربي على منحة تفرغ؟ سؤال كبير بحجم كل الطموحات والتطلعات والآمال التي يحملها المبدعون العرب الذين يملكون الرغبة في صناعة الحلم وإنتاج الدهشة. أفضل إجابة عن هذا السؤال الكبير، هو هذا السؤال الأكبر: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ نقطة واحدة فقط، هي الفرق بين المفردتين ولكنها كبيرة بحجم كل سنوات التيه العربي الذي فقد بوصلة النجاة.
الكاتب في الغرب، ثروة وطنية لا تُقدر بثمن، بينما سعر الكاتب العربي، يتعرض لهبوط حاد في بورصة الثقافة العربية.
التفرغ للكتابة، فكرة ذكية وصناعة ناجحة، ستؤسس لثقافة ”الاحتراف الأدبي“ الذي سيقوم ببناء ”الوعي المجتمعي“ للوصول إلى الهدف الكبير وهو ”اقتصاد المعرفة“.
في العالم العربي، ولأسباب كثيرة، مازال هذا ”المشروع النهضوي“ بعيداً عن فكر ومزاج وفهم صنّاع الثقافة العربية. نعم، هناك بعض المحاولات والمبادرات الخجولة في أكثر من قطر عربي، وأهمها تجربة وزارة الثقافة المصرية التي أقرت ”مشروع منح التفرغ“ في عام 1959، بهدف ”إثراء الحركة الثقافية عبر منح المبدعين المتميزين منحة مالية تُصرف لهم شهرياً، بغية التفرغ للإبداع بعيداً من العوائق المادية والاجتماعية التي تعترض طريقهم“، وقد استفاد منها العديد من المبدعين المصريين، كمنحة الأخوين أدهم وسيف وانلي لتسجيل معالم النوبة قبل أن تغمرها مياه السد العالي، ومنحة الأديب الشهير علي أحمد باكثير لإنجاز العمل المسرحي الكبير ”ملحمة عمر“، ومنحة الروائي النوبي إدريس علي صاحب رواية ”انفجار جمجمة“ التي تُعدّ من أهم الروايات العربية في القرن العشرين والتي كانت ثمرة منحة تفرغ حصل عليها.
وفي الخليج العربي، تبرز تجربة الشاعر البحريني الشهير قاسم حداد الذي حصل على ”إجازة تفرغ“ للعمل الأدبي من وزارة الإعلام في البحرين عام 1997، لتبدأ بعد ذلك تجربته الثرية ولكن في ”الاتجاه المعاكس“، إذ حصل على عدة ”منح إقامة أدبية“ من بعض الأكاديميات والمؤسسات الثقافية الألمانية التي تُخصص منح تفرغ للأدباء من كل العالم.
ولكن، ماذا عن المنح الأدبية في السعودية التي تُسابق الزمن من أجل تحقيق رؤية 2030 الطموحة؟ المقال القادم، سيُحاول مناقشة ذلك.