الجعفري والإسلام السياسي
تابعت باهتمام الحوار الجميل بين الدكتور ابراهيم الجعفري وزير خارجية العراق والدكتور محمد مختار مبروك وزير الاوقاف المصري، وكعادته كإسلامي عريق اخذ الجعفري يسوغ لحاكمية الدين على السياسة، مستشهدا بالنبي محمد، الذي عمل على تأسيس دولة والدعوة الى دين في آن واحد، وانتهى به المطاف الى تأسيس الدولة العربية وسيادة الديانة الاسلامية، وهي من اهم الحجج التي تسوقها احزاب الاسلام السياسي.
وزير الاوقاف المصري قال بأنه يرفض تسييس الدين واستخدام الدين في السياسة، بينما يصر الدكتور الجعفري على رفض ذلك، مشددا على ان المرفوض هو توظيف الدين لتحقيق اهداف سياسية.
ان الخلل في البيئة السياسية العربية هو في الاسلام السياسي بحذ ذاته، اذ ان النشاط السياسي وفقا لمرجعية دينية سيؤدي لا محال الى توظيف الدين لخدمة اغراض سياسية، نظرا لكون الدين نص صامت، يفهم ويطبق وفقا للثقافة السائدة والبيئة التي يتحرك من خلالها.
بينما السياسة كنظام وممارسة قائمة على المصالح والمتغيرات السريعة، اما الدين فحركته بطيئة ودو قوانين جامدة ومتزمتة، بحيث لا يمكنه مجارات ايقاع البيئة البشرية ذات الطبيعة المتشعبة والمتطلبات المتعددة التي تحكمها انظمة تضم كيانات وتفرعات وامتدادات متشابكة ومعقدة.
عندما مارس النبي محمد السياسة وشن الحروب بهدف تأسيس دولة، كان ولا بد من وصلها بالدين، اذ ان كل من النظامين السياسي والديني مرتبطين ارتباطا وثيقا، اذ كان لكل دولة في تلك الحقب التاريخية سلطتين زمنيتين، سياسية ودينية، فالدولة الساسانية مثلا كان دينها القومي «اي انه نشا في بلاد فارس» الزرادشتية، وكانت المسيحية الدين الرسمي للدولة البيزنطية، لذا كان من المستحيل في تلك الحقب ان يسود دين من دون دولة، او ان تؤسس دولة من دون دين، «أي دولة علمانية او مدنية وفقا لمفاهيمنا المعاصرة» ولم يكن محمد النبي ليشذ عن هذه القاعدة.
كما انه لم يشذ عن اية نواميس كانت سائدة في عصره، فقد شيد دولته بالحرب والغزو، وجاءت بعده في الحكم قبيلته قريش، بل وتنازعت قريش الحكم بين فروعها «علويين - امويين - عباسيين».
بل وجرى على الاسلام ما جرى على غيره من انقسامه لعدد كبير من المذاهب والمدارس.
وكما في الامم الاخرى التي تقوم على ثنائية السلطة «المؤسسة السياسية - المؤسسة الدينية» فقد تحولت السلطة في الدولة العربية التي أسسها النبي محمد من فردية قائمة على وحدة المؤسستين السياسية والدينية في العهدين النبوي والراشدي الى ثنائية ابتداء من العصر الاموي.
ويستشهد الدكتور الجعفري بآيات من القران الكريم «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - الظالمون - الفاسقون» كنصوص قطعية على وجوب السعي لإقامة حكومة دينية، وكدليل حاسم على الارتباط المفصلي بين الدين والدولة.
وبناء على هذا التصور فأن معظم الدول والامم والشعوب في عصرنا تنطبق عليها مضامين هذه الآيات، وعليه فأن دول مزدهرة كنيوزيلندا وفنلندا والدنمرك، تديرها حكومات كافرة وظالمة وفاسقة، وتعيش فيها شعوب ضالة، على الرغم من انخفاض نسب الجريمة والفساد، وتقدم البيئة الوطنية وازدهارها على مختلف الاصعدة والمستويات.
بينما دولة كالعراق التي تحكمها اليوم الاحزاب الدينية وتسودها ثقافة دينية واسعة النطاق، تعتبر وفقا لهذا المعيار دولة رسالية، بالرغم من تبؤها المركز 166 من اصل 174 دولة شملها تقرير مدركات الفساد لعام 2016، عدا ما يشهده العراق من حروب داخلية، ودمار واسع النطاق للبنى التحتية، وتصنيفه في قائمة اخطر الدول واقلها امانا على مستوى العالم.
لا شك ان معضلة العالم العربي تكمن في عدم اجراءه لعملية الفصل بين النظامين الديني والسياسي، وانها لجراحة غاية في الصعوبة والالام المبرحة، الا انه لا بد منها اذا ما ارادت الشعوب العربية والمسلمة الخروج من مازقها الحضاري، ويكفي ما عانته خلال الاربعين عاما الماضية من تجارب لم ينتج عنها سوى المزيد من الخراب، ابتداء بالثورة الدينية في ايران التي اوصلت الاسلاميين الشيعة الى السلطة، الامر الذي اوجد ردة فعل عارمة في اوساط الاغلبية السنية دفعتها الى تقديم نموذج موازي، فكانت الصحوة الدينية في مختلف البلدان والمرجعيات الدينية والمذهبية في العالم العربي، نتج عنها ظهور التنظيمات الدموية، كحزب التحرير وجماعة التكفير والهجرة والقاعدة واخيرا داعش، علاوة على ما خلفته من بروز للتيارات المتطرفة والافكار المتعصبة المعادية لمنتجات الحضارة ونظمها الثقافية والقيمية، ورفض لواقع التعددية وثقافة الاختلاف، والشيوع المدمر للصراعات المذهبية والطائفية واستفحال مشاعر الكراهية والبغضاء، والوقوع المدوي في وحل التراث.
الامر الذي اذى الى تفكك بنيوي خطير في المجتمعات العربية، نتيجته ما تعانيه شعوب اليمن وسوريا ولبنان والعراق من حروب ونزاعات عاتية، ربما تمتد الى اقطار اخرى، اذا لم يتدارك الامر ويفصل ما بين النظامين الديني والسياسي، ثم القيام بإصلاحات شاملة وعميقة في البيئة العربية.
آن الاوان لطي صفحات الماضي والسير نحو الغد بخطى ثابتة تستند على الحرية بكل ما تحمله من نور وأمل وعطاء.