العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني 7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1] .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ والَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ﴾[2] .
وفي الحديث الشريف عن النبي ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خلَف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» [3] .
مسلكان يفرضان نفسهما على مسيرة البحث ضمن حدود الحوزات العلمية في دائرة المسلمين عامة على أساس منهما تبنى المذاهب وتصحح الأعمال وتغربل الآراء.
ولا بد من الإشارة ولو على نحور الاختصار لهذين المسلكين:
1 القول بالتصويب: أي أن ما يصل إليه المجتهد من اجتهاد هو الحق، وليس وراء ذلك شيء، فما اجتهد فيه العالم كان هو الحكم الشرعي من الله تعالى، وإن تعددت الآراء. وهذا يبتني على أساس أسسوه، ومعنى ذلك أن لا حكم لله تعالى إطلاقاً قبل أن يجتهد المجتهد، فحيث لا يوجد اجتهاد في قضية ما يعني أن الله تعالى ليس له حكم في تلك القضية.
بهذا التقريب قربوا هذا المسلك، أي أن الله تعالى ليس له حكم بوجوب أو حرمة أو أو كراهة استحباب أو إباحة ما لم يستنبط الفقيه، فإذا استنبط الفقيه ثبت الحكم.
كما قربه البعض بتقريب آخر فقالوا: إن لله حكماً ثابتاً، سواء اجتهد المجتهد أم لم يجتهد، وهذا الحكم في كل حادثة، فما من واقعة إلا ولله فيها حكم، وهذا الحكم الثابت عند الله تعالى يصاب بالنص الشرعي وما سواه، كالقياس مثلاً، فمتى ما تحرك الفقيه واستنبط الحكم الشرعي حصلت المطابقة وإصابة الواقع عند الله سبحانه وتعالى.
ومن أبرز أقطاب هذه المدرسة الذين عرفوا بها الإمام أبو حنيفة والإمام مالك، وهما من أئمة المذاهب الذين اختاروا هذا المسلك، وملخصه أن الله تعالى له حكم لكنه يصاغ من خلال اجتهاد المجتهد. ولهذا الرأي محاذير سوف نقف عليها لاحقاً إن شاء الله.
2 مسلك التخطئة: وهو المقابل للقول السابق، وملخصه أن ما يقوم به الفقيه المجتهد من استنباط للحكم الشرعي ليس بالضرورة أن يكون مطابقاً لما هو عند الله سبحانه وتعالى من الحكم الذي اتخذه وأجراه وأبرمه قبل حركة الفقيه.
والمرتكز عند هؤلاء أن لله في كل واقعةٍ حكماً، وهو حكم واحد غير قابل للتعدد، فليس للفقيه ورأيه مدخلية في الحكم كي نقول بتعدده بتعدد آراء المجتهدين، إنما هو حكم واحد لا يتعدد بتعدد آراء المجتهدين، وهذا الحكم قد يصاب بالاجتهاد وقد لا يصاب، فربما يستطيع الفقيه بعد جهد جهيد أن يصيب الواقع عند الله تعالى، وربما لا يستطيع أو لا يوفّق للوصول إليه. فالحكم واحد، قبل اجتهاد المجتهد وبعده، لا فرق.
ثم إن ذلك الحكم ثابت لا يتغير منذ يوم التشريع وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا يتغير الحكم ليتوافق مع رغبة فقيه أياً كان، لأنه حكم الله سبحانه وتعالى ولا خيار للمجتهد ولا لغيره في تغييره. وهذا مما ذهبت له الإمامية وأتباع الإمام الشافعي.
إن لازم القول الأول الذي يقول بالتصويب خطير ومشكل جداً، ونحن مع من يقول بالتخطئة، أما من يذهب إلى التصويب فهنالك إيرادات طويلة عريضة ترد عليه، أقتصر على ثلاثة لوازم منها:
1 تساوي الظن الإنساني عند المجتهد بالوحي الرباني: فرأي الفقيه واجتهاده ظني بلا شك، لأنه يتحرك ويعمل في إطار غربلة الأدلة الشرعية التي يستنبط على أساسها الحكم الشرعي، ولا يمكنه أن يقطع بدلالتها على الحكم الواقعي. فلو قلنا: إن لله تعالى في كل واقعة حكماً، ثم تعددت الأحكام بتعدد آراء الفقهاء، وقلنا بعائديتها جميعاً إلى الله تعالى، فمعنى ذلك أن الله تعالى يحقق رغبات الفقيه. وكذلك إذا قلنا إن الله تعالى قبل اجتهاد المجتهد ليس له حكم، فهذا يعني موافقة الحكم الرباني الحكم الإنساني، أي أن التشريع أصبح تابعاً لا متبوعاً.
فلازم هذا القول تساوي الحكم الظني للفقيه بالحكم الإلهي، بل تبعية الحكم الرباني للظن الإنساني، وهو باطل جداً.
2 أن يكون لله حكم موافق لكل فقيه مع تعارض واختلاف الفقهاء: أي أن الله تعالى سيكون له حكم موافق للإمام أحمد وآخر لأبي حنيفة وثالث لمالك ورابع للشافعي وخامس للإمام جعفر الصادق وسادس للإمام زيد، وهكذا تطول القائمة. وهذا بالبداهة باطل.
3 إغلاق أبواب البحث في علم الفقه: إذ لا حاجة بعدُ للاجتهاد، فما دام أن الحكم موزع وفق المرادات والمسارات والحركة التي يجريها الفقيه خارجاً، فلا داعي لعلم الفقه وغربلة الأحاديث، فالفرض أن الجميع مصيبون في إصابة الحق في الحكم.
وتوضيح ذلك أن الله تعالى إما أن يكون له حكم واحد في القضية أو متعدد، وعلى كلا التقديرين لا بد أن يعطي لكل فقيه حكماً، وهذا باطل.
وهنا تتضح لنا معالم أمر مهم، وهي حجية خبر الواحد، فمعظم المنتج من الأحكام الشرعية يرجع إلى أخبار الآحاد، وما يكون مقطوع الصدور عن المعصوم لا يوازي ما هو مروي بطريق الآحاد، وإن اكتسب شهرةً بعد ذلك.
فخبر الواحد نجده عند مفترق كل كتاب حديث عند الفريقين، ولم تسلم المدرسة الإمامية ولا مدرسة العامة من الكم الهائل من الروايات الآحادية في هذا الجانب، غاية ما في الأمر أنها تُغربل، فيكون لبعضها تمامية الدليل والجعل لها على الحكم الشرعي، وبعضها يخفق منذ الوهلة الأولى لوجود الوضع والدس وغيرهما.
وهذا الخبر الآحادي علاوة على ظنية صدوره فإن دلالاته أيضاً دلالات ظنية، ومن هنا تبدأ عملية بحث الفقيه فيه سنداً، فإن تم السند وحظي بدرجة الوثاقة آلت النوبة إلى الدلالة في تفكيك مفردات ذلك النص وما يستفاد من هيئات الجمل.
ومن الأمثلة الواضحة أمامنا كتاب الكافي الشريف، لثقة الإسلام الكليني رضوان الله تعالى عليه. فالعامة لديهم صحيح البخاري، أما الخاصة فلديهم الكافي للكليني.
مصنف هذا السفر الجليل هو محمد بن يعقوب بن إسحق الكليني الرازي «قدس سره الشريف»، وهو علم كبير من أعلام مدرسة الحديث وأكثر من ذلك، فهو ليس محدثاً فحسب، إنما هو عالم من كبار علماء الشيعة الإمامية.
ولد على الأرجح سنة 255 هـ أي قبل سنة من ميلاد الخلف الباقي من آل محمد وتوفي سنة 329 هـ.
وقد كانت مدينة الري التي ولد فيها وعاش شطراً من عمره تحظى بببيئة علمية متنوعة، وليست محصورة على لون واحد، وعندما تتعدد الألوان في الثقافات والعلوم والمعارف والفنون والآداب وغيرها يزداد العالم عمقاً، وتصبح الإبداعات بالنسبة إليه أكثر من المحاكاة والتبعية لمن تقدم. لذا يعتبر كتاب الكافي علامة ودلالة على الإبداع، من حيث التبويب والتقسيم والتفريع، وهذا في الشكل، أما المضمون فله شأن آخر.
كان المجتمع الذي عاش فيه تتمازج فيه أربعة من الطرق المذهبية: الإسماعيلية، والشافعية، والأحناف، والإمامية، وكل مدرسة من هذه المدارس لها قيمتها وثقلها في الميزان، غاية ما في الأمر أنه بحسب ما يكون الانتماء يكون التوجه والتركيز والمتابعة، ومن غير السهل أن يحكم المرء لطرف آخر حال أنه تشبع بفكر آحادي منذ نعومة أظافره حتى دخل في عالم الشيخوخة. فابن الدولة الإسلامية لا بد أن تفرض حاكمية الدين الإسلامي وجودها في صياغة عقله، وهكذا من كان في بلد هندوسي، أو نصراني، وهكذا الحال في المذهبية، فلو كان الطابع العام في بلد ما إمامياً اتخذت العقول فيه اتجاه الإمامية، وهكذا إن كان سنياً، بحسب المذهب. فتجد دولاً مسلمة سنية على مذهب الأحناف، وأخرى على مذهب الشافعي، وهكذا.
والكلام عين الكلام في مسائل التقليد عند الإمامية، فكما أن في مدرسة العامة تعدد، كذلك يوجد التعدد في مدرسة الإمامية بناءً على تعدد المذاقات والمشارب المرجعية، فليس بالضرورة أن تكون سيادة مرجعية معينة في القرون الأخيرة أن يكون هذا الفقيه أو ذاك هو سيد الموقف بما تحمل الكلمة من معنى، ولكن للبيئة أثرها، ولأصحاب القرار والنفوذ أثرهم وحركتهم، وأحياناً يكون النفوذ سلطوياً وأحياناً يكون مجتمعياً أو علمياً أو حورزياً في دائرة ضيقة، وهكذا دواليك. وسوف نتكلم في يوم ما عن الأعلمية وكيف تتشكل ومن أين جاءت؟ وهل يمكن لهذا القول أن يصمد لعقود إلى الأمام أو أنه يمكث لفترة زمنية معينة ثم ينتهي كما انتهى غيره؟ فالإخبارية في يوم ما سادت الموقف، إلا أن معالم مدرستهم درست واضمحلت.
فمدرسة الري أكسبت هذا الرجل الرغبة في أن يوسع من مداركه وعلومه فوجد أن تلك المدينة لا تحقق له البلغة والأمنية التي يطمح إليها، فتوجه إلى قم المقدسة، وكانت تعج بالأساطين من المحدثين لا سيما من الأشعريين، من أرباب الرواية عن أهل البيت بطرق قصيرة من راوٍ أو راويين، فعمد إلى تلك الحاضرة العلمية الكبرى «المظلومة» لينهل من علومها.
وفي قم وسع من حدود مدرسته الحديثية، ثم هاجر إلى بغداد. ولم يمض في بغداد سوى سنتين، لكنها في منتهى الأهمية، لأنها توافقت مع فترة الغيبة الصغرى، وقد أدرك من يروي عن الإمام العسكري بالمباشرة، ويفترض أنه أدرك من ينقل عن الناحية المقدسة من خلال التواقيع.
وللكليني مؤلفات عديدة، أبرزها وأشهرها الكافي، لعلو شأنه والجهود التي بذلها، وأنه يمثل المادة الأولية لكل من جاء بعده.
ولديه كتاب آخر في علم الرجال، والمحدث الناضج لا يستغني عن علم الرجال أبداً، وله رأي في نقدهم. كما ألف كتاباً في الرد على القرامطة. وهم الذين ظهروا في الأحساء والقطيف، جنوب الخليج العربي وغربه. وهذا الملف من الملفات المهمة الحساسة، ويمثل الدخول فيه وإعطاء الرأي كارثة، وعندها لن يرضى عنك الشرقي ولا الغربي.
كما لديه كتاب في رسائل الأئمة ، وهو ما كتبه الأئمة على نحو الإجابة عن تسائل أو غير ذلك. ولديه أيضاً كتاب في تعبير الرؤيا، ولديه موسوعة شعرية في مناقب أهل البيت .
والذي يعنينا من مصنفاته الكافي، فهو يشتمل على 16121 حديثاً، وهذا الكتاب العظيم خضع للبحث والغربلة من حيث الأسانيد والتعارض والمشتركات وما إلى ذلك، وبذلت فيه جهود لألف سنة أو أكثر، مما يدل على عظم الكتاب وجلالة قدر المصنف. ولكن، تبقى العصمة لأهل العصمة.
ومن مجموع هذه الأحاديث التي ذكرناها يبلغ الصحيح منها على المشهور 6636 حديثاً، أي أن هناك ما يقرب من عشرة آلاف حديث لا تبلغ درجة الصحة.
ومن المحققين المتأخرين المعاصرين الذين اعتنوا بهذا السفر الجليل العلامة المحقق محمد باقر البهبودي، من أعلام قم الكبار، الذي ألف كتاباً أسماه صحيح الكافي، حيث جمع فيه الأحاديث الصحيحة التي جاءت في الكافي.
يقول البهبودي: إن الصحيح من الكافي هو عبارة عن 4428 حديثاً، والباقي منها لا يرقى لدرجة الصحيح.
وهنا لا بد أن أشير إلى أمر مهم، وهو اللقب الذي حظي به العلامة الكليني رحمه الله تعالى، وهو «ثقة الإسلام»، والسر في هذا اللقب أن العامة والخاصة أخذوا تكاليفهم منه، وهو ما لم يتفق لغيره البتة. لا كما يتوهم البعض من أن ذلك اللقب لحقه من خلال روايته للروايات في كتابه المذكور.
وهنالك إشكالية تثار في هذا الموضوع، وهي أن الشيخ رحمه الله تعالى عاصر السفراء الأربعة وهم الأبواب للحجة في زمن الغيبة الصغرى، إلا أنه لم يروِ رواية عن أحد منهم بالمطلق، لا بالواسطة ولا بالمباشرة.
وهنالك وهم لدى المدرسة الإخبارية أن كل ما في الكافي صحيح. وهو ما نراه عند البعض من غيرهم، لأنه يتبع فلاناً أو فلاناً.
وكفانا الشيخ الأعظم الأنصاري مؤنة الرد عندما قال: فقد ذهب شرذمة من متأخري الأخباريين فيما نسب إليهم إلى كونها قطعية الصدور. وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه، إلا التحرز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم [4] .
أقول: إن الاستسلام للموروث يفرض ضريبة ثقيلة بحكم اليوم والغد، فإما أن نمشي مع الموروث دون غربلة، ونسير في هذا المسار «الشرذمي»، وإما أن نسير باتجاه آخر. ومع الأسف الشديد تسلل هذا المنهج حتى لبعض المدارس الأصولية، فليس من الصحيح أن نظلم الإخباريين فقط. وللحراك الفكري ضريبة مماثلة، فمن يقول بالتوقف عند التراث وعدم تصحيح كل ما ورد فيه لا بد أن يدفع ضريبة، ومن لا يكون مستعداً لدفع الضرائب عليه أن يعتزل جانباً، ويقنع بالقليل، لكن الواقع الجديد يفرض نفسه على كل المسارات، شئنا أم أبينا.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.