الجوَّال.. على سبيل المثال
من يرصد منجزات العبقرية الموجهة نحو خدمة الحياة وتسهيل سبل العيش، ورفاهية الإنسان على هذه الأرض، سيجد فيضاً من الأمثلة. تأمل، على سبيل المثال، هذا الجهاز الصغير الذي يلازمنا أكثر من ظلنا، أعني الهاتف المحمول أو الجوال. وستجده، على صغر حجمه، متعدد الوظائف. فهو هاتف وقلم وورقة وآلة حاسبة وساعة ومنبه وكاميرا وفيديو وقاموس ومفكرة وتقويم وكشك صحف ومجلات ومكتبة وموسوعة وتلفزيون وبريد، ونظام تحديد المواقع «GPS» يرشد إلى الجهة المقصودة، وإلى آخره.
هذا المنجز التقني المتطور هو نتاج عقول لامعة، وتاريخ طويل من التجارب والبحوث والتراكم المعرفي، حتى أصبح على ما هو عليه، والقادم أفضل وأرقى.
لنأخذ مثالا آخر لا يخلو من الطرافة على إحدى مهام هذا الجهاز الذكي. ففي مسرحية «باي باي لندن» يشرح شارد بن جمعة لموظف الفندق الانجليزي كيف يقف جهله باللغة الانجليزية حائلا بينه وبين «غزو» مدينة لندن اجتماعيا. يضع شارد بن جمعة يده على خده في إشارة إلى عجزه وقلة حيلته. ولو كان هذا الجهاز الذكي قد وُجِد وطُوّر، آنذاك، على هذا النحو لأصبح مترجما يساعده على الخروج من عزلته. صحيح أن هذا المترجم يرتكب أحيانا بعض الحماقات المضحكة، وأننا يمكن أن ندرجه في قائمة «المترجمين الخونة» كما يعبر المثل الشهير، لكنه يوفر الحد الأدنى من التواصل بين اثنين لا يجيد أي منهما لغة الآخر.
وإلى جانب هذا التطور المذهل في عالم الاتصال، توجد قفزات مماثلة في مجال الطب وعلوم الفضاء تهدف إلى خدمة الإنسانية. عبقريات عابرة للقارات شأنها شأن مزنة ماطرة لا تسأل عن هوية الإنسان أو عرقه أو لونه، ولا عن المكان الذي تمنحه زخاتها. وهذا هو الفرق بين نشاط يرقى بالحضارة الإنسانية وآخر لا يمت للإنسانية بصلة. أو بين من يسعى إلى تطوير تقنيات تقاوم العزلة، وتخدم التواصل الإنساني، ومن يشيد جدران الانغلاق وسياجات العزلة.
قد يموت عالم في المختبر وهو مُكبٌّ على تجاربه وأبحاثه التي تخدم الحياة على هذه الأرض، وهي نهاية تختلف كليا عما تنقله لنا نشرات الأخبار من موت عبثي يمارسه بجنون مَن لا تربطه صلة بأسرة البشر.
يذكرنا ذلك النشاط الإيجابي المكرس لخدمة الإنسان بنقيضه، فنتساءل: ما طبيعة منظومة القيم التي تجيز ذلك التوحش العبثي المدمر؟ أية عقلية تغذيه؟ وفي أية تربة يمد جذوره؟