آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 5:24 م

إشارة استفهام بعد الصحة النفسية

ليالي الفرج * صحيفة الشرق

لا يزال مفهوم الصحة النفسية ضمن المفاهيم التي تصل إلى أغلبنا في صورة مشوّشة، فيما تتراكم صورة نمطية إجمالية غير قادرة على تقريب حقيقة المفهوم ذاته لدى نسبة كبيرة من أهل المعمورة. وضبابية النتيجة تفرزها مجموعة العوامل الثقافية والاجتماعية التي تعمل على استيعاب شيء في ظل تأثيرات قوالب الفهم السائدة حول هذا المفهوم أو تلك القضية؛ مما يؤدي بالنتيجة لإدراك غير دقيق، فيما تنقل المخيلة صوراً غائمة إلى مستوى عميق يصل إلى أن يكون ضمن القناعات الكلية للإنسان.

وحتى على مستوى المقاربات البسيطة لقضايانا النفسية، نجد حالة من عدم الارتياح؛ بفعل ما يمكن وصفه من جهة بأنه قصور ومن جهة أخرى بأنه تقصير. ويبدو أن ثقافة عدد ليس بقليل منا حول الصحة النفسية لا تتجاوز لغة الدراما في حلقة العيادة النفسية خلال المسلسل الخليجي الشهير «درب الزلق»؛ إلى درجة أن قناعات كثيرة تعتقد فيما لا يتجاوز في حقيقته الظن القاصر، أن الطبيب النفسي أو المعالج النفسي أو الاختصاصي النفسي يتأثر سلبياً من المرضى؛ وكأنّ الأمراض النفسية تنقل العدوى!

إنّ ما يضع بلدان العالم أمام مسؤولية كبيرة هو إيصال مفهوم الصحة النفسية ضمن برامج إرشادية يكون لديها القدرة في تصحيح الصورة النمطية السائدة وفي كسر الحواجز التصورية لقضية ترتبط بقضية الإنسان؛ أي تؤثر في حياته وفي عمره وفي مستقبله، بل وربما مستوى أبنائه وعائلته.

وفي وقت تطرح منظمة الصحة العالمية أنّ الاكتئاب سيكون القاتل الأول في العالم كمرض في سنة 2030 فيما سيكون في المرتبة الثانية بعد أمراض القلب في سنة 2020، متجاوزاً مرض السرطان وحوادث السيارات، فإن العالم يضع نفسه أمام تحدّ كبير في مواجهة من أجل الإنسان ومن أجل الحياة التي لا تتقدم دونه.

وبحمد الله ثم بفضل تطور الخدمات الصحية، ارتفع متوسط العمر تدريجياً، وهذا على مستوى الصحة العامة. لكن تبقى قضية الصحة النفسية محلّ قلق عالمي. ومن أروع ما جاء في مجال ضرورة الاهتمام بنشر ثقافة الصحة النفسية أسرياً واجتماعياً، يشير الدكتور فهد العصيمي، وهو استشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي، والأستاذ المشارك بكلية الطب في جامعة الملك سعود، إلى مجموعة مقترحات تصبّ في تطوير الصحة النفسية لدينا، ومنها إعادة صياغة الهرم الصحي المقلوب لدينا؛ من خلال توسيع قاعدة الهرم الصحي، ودعم برامج الرعاية الأولية وطبّ العائلة في كل مستوياتها، كما يقترح التوسع في مراكز العلاج النهاري والتأهيل النفسي لتقديم رعاية طويلة المدى للمرضى النفسيين المزمنين. وفيما يقترح تشجيع القطاع الصحي الخاص على تطوير خدماته الصحية، فإنه لا يوصي بأهمية أن تكون لدى شركات التأمين الصحي برامج علاج للمرضى النفسيين ضمن التزاماتهم. ومثل الدكتور العصيمي، هناك كثير من المختصين يقترحون إنشاء برنامج وطني للصحة النفسية أو هيئة وطنية تهتم بقضايا الصحة النفسية، وتركز على إجراء الدراسات المستفيضة للقضايا النفسية الملحة، وكذلك رسم الخطط، وتنسيق خدمات الصحة النفسية على مستوى المملكة، مع الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، وكذلك توصيات منظمة الصحة العالمية، والجهات ذات العلاقة.

هذا من جانب علاجي، ومن جانب آخر لا يختلف اثنان على أهمية التنمية الثقافة النفسية والصحة النفسية وهذا مما يمكن أن تتضمنه ورش تدريبية في مدارسنا ضمن منهج إثرائي يتكامل مع المقررات الدراسية، ويسعى لتأسيس صورة صحيحة عن مفهوم الصحة النفسية التي لا نجد لها على مستوى الوقاية شيئاً مذكوراً، مع ما يتوفر في مراحل العلاج المختلفة من إمكانات حالية.

إن قضايانا الاجتماعية تتوسع، ولها تأثيرات سلبية على بيئتنا الاجتماعية. وليس التفكك الأسري الذي صار يشتعل أواره كما النار في الهشيم إلا من عوامل زعزعة الاستقرار النفسي والأسري، وكبح جماح ما يشكل خطورة على الصحة النفسية وعلى الجسد الاجتماعي، هو مهمة تحتاج إلى جهود وبرامج واسعة تجمع بين برامج التحصين والوقاية وبين برامج العلاج والاستشفاء، وفق آليات غير معطلة وبرامج تواكب المرحلة.

وكم هو مؤسف أن نقرأ عن حوادث انتحار، كما حدث خلال أسبوعين متعاقبين، وفي مدينة واحدة، انتحار وافدَين، في واقعتين منفصلتين، لكن ما يجمعهما هو اعتلال الصحة النفسية التي يأتي الاكتئاب على أول سطورها. الصحة النفسية للعالم في أمس الحاجة للخروج من بوتقة الخطر التي تهددها، ومن يتقّ الله يجعل مخرجاً.

كاتبة رأي في صحيفة الشرق السعودية
شاعرة ومهتمة بترجمة بعض النصوص الأدبية العالمية إلى العربية ، ولها عدَّة بحوث في المجال التربوي.