آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 2:33 م

عبقرية الفتنة

عباس المعيوف * صحيفة الشرق

لا يخلو مجتمع من فتنة تثار بين الفينة والأخرى هدفها بلاشك إثارة البلبلة والفوضى سواء كانت سياسية دينية اجتماعية ثقافية فكرية اقتصادية، وأعظمها من حمل غطاء دينياً لتصفية حسابات. البعض يتخذ من الدين القوة، قلة من يعاملون الله والأكثرية همهم صراع على النفوذ الاجتماعي والمكانة العالية حتى ولو كانت على حساب الغير، عبقرية الفتنة لا تأتي إلا من سخر النصوص الدينية وفق هواه وأعطاها طابع الغيرة على الدين والذود عنه والمتلقي هم العوام فتبدأ معركة الغلبة.

لفظ الفتنة متعدد ويحمل معاني كثيرة وهي بالمجمل تأتي بمعنى المحنة والابتلاء والمحاولة المستمرة لإيقاع الناس في الفرقة وتخريب أمنهم وتعلقهم الإيماني، فيأتي من يفوض هذا الإيمان مع سنين من التعبد والتعلق بالله وأوليائه الصالحين ببث جرعة من إعادة النظر في الفهم العام للنص مدعياً أنه يملك القدرة على التوضيح والتفسير والتأويل غير مبالٍ أن في المجتمع آراء وتعدد رؤى، فهو تربى على أحادية الرأي والثقة بشخوص معينين، واقعاً يمكننا تعريف الفتنة بفرض القوة على الناس بشيء لا يريدونه ولا ينسجم مع ما يرونه أو يعتقدونه وفي هذه الحالة إذاً يشكك في عقيدتهم ودينهم ويرى أن لوثة الحداثة علقت في عقولهم ويحتاجون من يطهرها، هذا النوع من الفتنة هو ما يمزق المجتمع بعفويته وبراءته وطيبته. هناك من لا يروق لهم التجديد والانفتاح على الآخر أولئك الذين يزينون القبيح ويقبحون الحسن، ويضلون الناس بغير علم ويزجون بهم في خضم الفتن لتحقيق مآربهم الدنيئة فينشرون الدعايات بين الناس ويربون الأجيال على الثأر وحب الانتقام والتفسيق والتضليل والحقد.

وبالتالي آثار الفتنة تبدأ صغيرة وتكبر مع الأيام في ظل غياب رجال المجتمع المخلصين له بمعنى الكلمة لا من يقتنص الفرصة لتعزيز حضوره الاجتماعي، وجود حالة من الازدراء ضد أي فصيل اجتماعي يعني تغلل الفتنة في أحشائها. وجود حالة من الاضطراب والتشويش في النظرة للمؤسسة الدينية والقطيعة مع المثقفين هي جزء لا يتجزأ من مشروع فتنوي تشوه صورة كل واحد للآخر هي مطلب لمهندسي الفتنة.

عبقرية الفتنة استطاعت استمالة عوام الناس وتغيير المنظومة الفكرية عندهم بعنوان الساكت عن الحق شيطان أخرس غير مدركين أن تبعات هذه الفتنة أكبر داخل أي مجتمع عرف عنه التماسك ويرفض الانقسام، من يؤججون المجتمع مرضى نفسيون يتهمون أن دورهم لابد أن يكون هكذا.

يرى العلامة السيد محمد حسين فضل الله الفتنة بأدوات تحركها وهي التي تنقل الخبر وتصنع الأكاذيب وتثير الشائعات، سواء كانت من وسائل الإعلام المسموعة، من قُبيل ما نسمعه في الإذاعات أو في أشرطة التّسجيل، أو من وسائل الإعلام المرئيّة، كما نلاحظه في التّليفزيونات وأمثالها، أو المقروءة كالصّحف، أو المسموعة على المستوى الاجتماعي كما يتناقله النّاس في السّهرات وفي الخطابات.. هذه الوسائل قد تربك الواقع السّياسي والواقع الاجتماعي والواقع الأمني، وقد تدمّر كثيراً من مواقع الخير وتشجّع كثيرا من مواقع الشّرّ. وقد أراد الله أن يعصم المؤمنين من الخضوع لهذه الوسائل بشكلٍ غير مدروس، فجاءت هذه الآية لِتقول ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، والفاسق هو الشّخص غير الملتزم، وهو الذي لا يخاف الله في أعماله وأقواله، ولا يتّقي الله في ما يقول أو ما يفعل، بل يعيش بهوى نفسه وفي وساوس شيطانه. وأمّا التّبيّن، فهو أن يتعرّف الإنسان على الحقيقة بوسائله الخاصّة.

خطورة الفتنة لا تقتصر على مجتمع بعينه بل تتعدى ما هو أكبر من ذلك، الخطأ وارد من الجميع وهذا طبيعة المجتمعات، تضخم الخلاف إلى حد حق وباطل لا ثالث لهما ولا حل يرجى بعيداً عن ثقافة الاعتدال والوسطية وحسن الظن بالآخرين وهي لب الفتنة، وهنا وصف رائع وجميل للفتنة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول كن في الفتنة كابن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب. من أثار كامن الشر كان فيه عطبه. لا تقتحموا ما استقبلتم من فور الفتنة وأميطوا عن سننها وخلوا قصد السبيل لها. من أعظم المحن دوام الفتن. قد لعمري يهلك في لهب الفتنة المؤمن ويسلم فيها غير المسلم. حفظ الله البلاد والعباد من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن.