الانحراف وتضخيم الخيال
قد لا يتنبأ الإنسان من أين يأتي الانحراف عادة.. فقد يأتي من تضخيم الإنسان حالة الخيال عنده.. فإنَّ ساعة من ”الخيال“ - كما يقول عباس محمود العقاد - ”تساوي مائة سنة أو مئات من السنين“.
قد يواجه الإنسان شيئاً عادياً، ولكنَّ خياله يجعله ينفتح من خلاله على عالم يفترض فيه اللذة وما أشبه ذلك، فشرب الخمر، مثلاً، ليس فيه كل هذا النوع من اللذة، إنّما هو الخيال الذي يعطي كل ذلك الوهم باللذة. وكذلك الأمر في الأمور الأخرى.
وننقل في هذا المجال هذه الرواية عن الإمام علي ، أنه كان جالساً في أصحابه إذ مرَّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال الإمام: ”إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ“، يعني إلى الأشياء السيئة، ”وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا< وانحرافها، >فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ، فَلْيُلَامِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّما هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ“.. أي أنَّ اللذة التي يتطلبها الإنسان من الناحية الجنسية، لا يوجد فيها فرق بين الذي يجده عند امرأته أو عند امرأة أخرى.. فالإحساس الجنسي واحد، لكنَّ الخيال قد يعطي الجانب الجنسي ما يضخم اللذة أكثر من واقعها.
وهذا ما أوقع به الشيطان آدام وحواء ﴿وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْن﴾ هل تعرفان لماذا نهاكما الله عن هذه الشجرة؟ لأنها تحمل سر الملائكية، فإذا أكلتما منها، فإنكما تصبحان ملكين مع الملائكة، ويصبح لكما أجنحة ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾، فهذه الشجرة فيها سر الخلود، فلا موت بعدها.
ثم بدأ إبليس يحلف لآدم وحواء الأيمان المغلظة: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾الأعراف: 21، وإنّه لا مصلحة له في أن يُصبحا ملكين أو ينالا الخلود، وإنّما المصلحة لهما. وفي هذه ما يكفي للدلالة على أنَّ الخطأ سوء تفكير، يُحرِّض عليه محرِّضٌ ما؛ إما أن يكون النفس ذاتها، أو نفسٌ أخرى كصاحب السوء. وليس هناك من صاحب سوء أسوأ من الشيطان. ودائماً يتصنع صاحب السوء - كذباً - أنه من المحبين الناصحين.
وعندما سمع آدم وحواء ذلك، ابتعدا عن نهي الله لهما، ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾الأعراف: 22، فكيف أطعتماه وعصيتموني؟ ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾الأعراف: 23.
وفي هذا المجال: لا بدَّ للإنسان أن يدرس أساليب إبليس. فإنَّ الأسلوب الذي استخدمه إبليس من أجل فتنة آدم وحواء لم يكن أسلوباً واقعياً حقيقياً، ولا يمثل لآدم وحواء أي نوع من أنواع السمو والارتفاع خارج ما هما فيه، والله سبحانه أراد لبني آدم أن يتعرفوا الأساليب التي يتبعها الشيطان في وسوسته لهم، وفي إلقائه إليهم بالكثير من الأوهام والخيالات التي تجعلهم يتصوّرون القبيح حسناً.
كما أراد لبني آدم أن يدرسوا تجربة أبيهم، وأن يتعرفوا كيف توصل إبليس إلى ذلك، وماذا أوحى لهما من أفكار، وما هي أساليب الوسوسة التي أثارت في داخل آدم وحواء المشاعر التي هيأتهما للتحرك في اتجاه تحقيق ما أراده منهما.
كما أنَّ على بني آدم أن يحذروا من فتنته الشَّيطانية، التي يحاول من خلالها أن يثير فيهم الأفكار والأجواء المنحرفة عن خط الله، وأن يوسوس لهم في همسات خفية، وأن يتجنّبوا الوسواس الخناس الذي يوسوس ويخنس، أيْ يبتعد حتى لا يكتشفه الطرف الآخر، حتى تتفاعل الوسوسة في نفس الإنسان، ليزين لهم معصية الله كما لو كانت حلماً من الأحلام، أو لوناً من ألوان السحر؛ ليعيش الإنسان معها في أجواء سحرية ضبابية غامضة، يسهل معها انجذابه إلى النار التي يحترق فيها إيمانه وفكره، تماماً كما هي الفراشة التي تجلبها أشواق اللهيب إلى النار.
عن سَالِمَةَ موْلَاة الإمام الصادق ، قالت: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ حِينَ حَضَرَتْه الْوَفَاةُ، فَأُغْمِيَ عَلَيْه. فَلَمَّا أَفَاقَ: قَالَ: ”أَعْطُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ «وهُوَ الأَفْطَسُ» سَبْعِينَ دِينَاراً، وأَعْطُوا فُلَاناً كَذَا وكَذَا، وفُلَاناً كَذَا وكَذَا“.
فَقُلْتُ: أتُعْطِي رَجُلاً حَمَلَ عَلَيْكَ بِالشَّفْرَةِ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟!!
فَقَالَ: ”وَيْحَكِ، أمَا تَقْرَئِينَ الْقُرْآنَ؟“.
قُلْتُ: بَلَى!
قَالَ: ”أتُرِيدِينَ عَلَى أَنْ لَا أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِه أَنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ﴾. نَعَمْ يَا سَالِمَةُ؛ إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وطَيَّبَهَا وطَيَّبَ رِيحَهَا، وإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفَيْ عَامٍ، ولَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ، ولَا قَاطِعُ رَحِمٍ“ الكافي: ج 7 ص 55.
فعلينا - أولاً - أن نفقه في هذا الطريق ونعرف أنَّه لا يقوى الشيطان على التأثير على الإنسان إلا بقدر السوء الذي في نفس الإنسان، فبقدر الربع - مثلاً - الذي منك الشيطان يستطيع أن يصل إليك، وكلما ارتقيت كلما ضعفت صورة الشيطان معك، لكنه يحاول أن يدقق في الحيل مادامت الروح في الجسد.
وهناك سبعة مداخل - كما قرَّرها علماء الأخلاق - تستطيع أن تعتبرها ملامح لمداخل الشيطان، أما تفاصيلها فيمكن أن تتفرع منها الكثير؛ فالشيطان لا يمل ولا يكل. ولكن هذه السبعة هي الأساس التي من خلالها ينفذ الشيطان:
1. صرفك عن العمل.
2. التسويف.
3. الرياء.
4. التعجيل في أداء الطاعات.
5. العجب.
6. خواطر في العقيدة.
7. دقائق الأمور.
أيها الأحبة..
نحن ننشغل بسبِّ الشيطان أكثر من شغلنا بذكر الله، ولو فتشت في سيرة النبي الحبيب ﷺ كان كثير الذكر لله، وكان كثير ترداد قوله: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وكثير التأمل في آيات الذكر الحكيم، وما كان منشغلاً بسبِّ الشيطان.
أليس في سبِّ الشيطان وشتمه عوضاً عن كل ذلك؟!
هذا مما لا ينفع! وسيضحك الشيطان على ضيق عقولنا، كما يضحك على ضيق عقول بعض الحجاج، فتراه عند الجمرة عند مرمى الشيطان يأخذ حذاءه، ويكيل السباب لهذا الشاهد الأصم ويخاطبه، أنت الذي جعلتني أطلق زوجتي!!.
وبذلك، لا تكون الذكرى شيئاً من التاريخ، بل حركة وعي، ودرس إيمان، وسبيلاً إلى الحرية؛ ليفهم الناس من خلالها دورهم في الحياة، ومسؤوليتهم في بناء كيانهم على أساس إرادة الله، ليعمِّقوا إيمانهم، وليلتفت الإنسان إلى خلجات نفسه، وإلى نبضات مشاعره، وإلى حركة فكره، فلا تتحرّك نفسه في كلّ ذلك إلاّ في خطّ رضى الله سبحانه.