آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

البعد النوراني للإمام الكاظم

لقد أعطى الإمام الكاظم بانصرافه عن زينة الدنيا وزخارفها وانشغال الفؤاد بها، تصورا واضحا لحقيقة الدنيا والإقامة المؤقتة فيها، وأنها دار عمل واختبار وابتلاء يخوض فيها العبد غمار العمل الذي يقربه من الله تعالى، وعليه أن يحافظ على نزاهة نفسه من دناءة المعاصي والشهوات، والتي تأخذه نحو مهوى ارتكاب الخطايا والإدمان عليها بعد أن يغيب الضمير الحي والعقل الواعي.

طريق جهاد النفس هو المسلك الأخلاقي والقيمي الذي يترفع به الإنسان عن مقارفة المعاصي، ويكامل نفسه ويعلو بها إلى قامة الاستقامة والورع والبصيرة بجادة طريق الهدى.

ولن يجد المرء منهجية ترتقي به في فضاء اليقظة الروحية كسيرة الأولياء العظام، والذين كانوا تجسيدا للقيم والصلاح ومحالفة الطهارة النفسية، والإمام الكاظم أعطى للوقت أهميته في حياته الشريفة فلم يضيع لحظة بعيدا عن محراب الطاعة والعبادة بمفهومها الشامل، وقد يظن البعض بأن راهب آل محمد مارس الدور الرهباني الذي ينكفئ فيه على صومعة الصلاة، متجاهلا حاجات الناس لراية رشاد وتوجيه وتنبيه لمعالي الأمور، وتحذيرهم من حفر الخداع الشيطاني وأهواء النفس التي يمكن أن يقع فيها المخدوع والمفتون بحطام الدنيا، وهذا مفهوم خاطئ لمفهوم العبادة والذي مارسه النساك جهلا منهم بحقائق الدين والدور الرسالي المناط بالمؤمن، بل كان الإمام الكاظم - وهو حليف التقى - لا يغفل أبدا عن تنوير العقول وصيانة النفوس وتوجيه سلوكها نحو رضا المعبود، فهذه كنوز الحكمة ولآلئ المعرفة ينطق بها ما وسعه وسنحت له الفرصة التي يتربصها ويهيئ النفوس لها، كما أن سيرته العملية والتي يطلع على تفاصيلها المؤمنون كانت الرافد الأعظم لحوزتهم نحو طلب القرب الإلهي، فأخذت الأفواه تتعطر بنقل تفاصيل أفعاله الحميدة ومواقفه العظيمة سواء كان في صلاته أو دعائه أو زهده أو خلقه الرفيع أو عطائه، أو انتشاله للحيارى في دروب الحياة من المتلهفين على وجاهتها وألوانها السرابية.

لقد كانت الأموال تصل إلى الإمام الكاظم من الحقوق الشرعية والهدايا فلم تكن لتمكث عنده إلا هنيئة حتى تقع في يد محتاج وفقير وفي سبل الخير، حتى اشتهرت بين الناس «صرر موسى»، والتي ما أخذها أحد وافتقر، وفي مقابل ذلك كان يعيش حياة الزهد والكفاف والبساطة مواسيا بذلك أقل الفقراء، ومتابعا بدقة لأحوال الناس الاقتصادية والاجتماعية وما يواجههم من مشاكل وعقبات.

وضرب الإمام الكاظم أروع الأمثلة وأحسنها في التعامل الإنساني الراقي، والذي تختفي منه كل علائم الانفعال والعصبية واختلاق الخلافات واستجلابها، فكان في صبره وضبطه لنفسه أمام إساءة المسيئين موضع تأس للمؤمنين، حتى عرف واشتهر بالكاظم للغيظ والغضب عمن جهل حقه وقابله بكل عنجهية وصلافة وسوء أدب، ليقابلها بكل إحسان وعفو وصفح لا يحمل فيه قلبه شيئا من الإحن والضغينة على أحد مطلقا؛ ليكون إمام الحلم والعلم للناس.

وكان الإمام الكاظم مدرسة للصبر وتحمل الأذى والتكيف مع الأوضاع الصعبة؛ ليكون رسالة إيمانية لسالكي نهجه ودربه بأن الحياة دار ابتلاء بلا استثناء لأحد، فلا يطلبن أحد بإيمانه وصدقه وطيبته صفوها وهنائها، وعلى المؤمن أن لا يقع ضحية للجزع واليأس وتهاوي قدراته، فالهزيمة النفسية أقوى الضربات التي يتلقاها المرء في حياته لتشل فكره وحراكه، بل عليه أن يكون على مستوى تحمل المسئولية في أحلك الظروف وأقساها، ولا يغيبن عن فكره أبدا بأنه بعين الله ورعايته، فالإمام الكاظم أراد سجانوه من حبسه كسر نفسه وتحويله لبقايا إنسان، وإذا به يحوله إلى محراب طاعة وعبادة ومدرسة في فهم الحياة وصناعة الإنسان الكامل، فخاب مسعى أعدائه وأضحى راية خفاقة في سماء الحرية والكرامة وملازمة القيم الحقة.