آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 2:33 م

التنمية والخروج من المأزق

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

الحديث عن الأزمة العربية الراهنة، هو حديث شائك ومتشعب، وقد بات أمراً مسلماً به من قبل الجميع. لكن الاختلاف يكمن غالباً في تفسير أسبابها، وطريقة الخروج منها. ويلعب الهوى والأيديولوجيا، والموقع الاجتماعي، أدوارها في تقديم أجوبة هي بالضرورة منحازة، وغير قادرة على النفاذ إلى عمق الأزمة، وتقديم أجوبة عملية لتجاوزها.

واقع الحال، أن محاولات عبور الأزمة، هي في معظم الأحيان جزء من تجلياتها. ونقطة الضعف فيها أنها تغيب التاريخ، ولا تنطلق من قراءته وقوانينه، رغم أن هذا الجزء من العالم، هو الأكثر تأثراً بالتحولات الكونية وبنتائجها، الواضحة والمضمرة.

وأولى قوانين التاريخ، أنه يقوم على الصراع، وأن التسويات التاريخية، هي حاصل عجز المتصارعين، عن كسب الصراع لمصلحتهم. وأي تصور خلاف ذلك من شأنه أن يجر إلى استسلام وعجز، وغياب للإبداع والمبادرة، وتغييب للوعي، والإرادة، والقدرة على الفعل. ومن هذا القانون تكتسب مقالة ونستون تشرشل الشهيرة، موقفها بأن العلاقات بين الدول ليس فيها صداقات دائمة، لأنها تقوم على المصالح.

القانون الآخر، هو أن الأفكار، كما النباتات، لها بيئتها الخاصة، ومناخها الخاص. إن ذلك لا يعني أبداً، التسليم بما هو قائم، وتكريس حالة الجمود والسكون، والتوطنة لما هو جديد ينبغي أن تكون في سلم الأولويات، وإلا فإن النقل سيكون ميكانيكياً، بمعنى أنه غير جدلي.

وكان والت روستو في بداية الخمسينات من القرن المنصرم، قد أطلق نظريته في كتابه الموسوم «مراحل النمو الاقتصادي»، عرض فيه فلسفته، بأن الدول المتخلفة، ستتغلب عن طريق التكامل مع الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، والمساعدات والقروض، ونقل التكنولوجيا الغربية، وتبني النموذج الرأسمالي، على حالة التخلف. وسوف تصل إلى مرحلة الانطلاق. بمعنى أن تقدم هذه الشعوب هو في اندماجها التام بالأسواق الرأسمالية.

كان هذا التنظير، جزءاً من محاولة الاستقطاب العقائدي والسياسي، أثناء اندلاع الحرب الباردة بين القطبين العظيمين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الذي قسم العالم بين معسكرين، على أسس الولاء لأي من القطبين.

في دول العالم الثالث، انقسمت نظمها السياسية، وتوجهاتها الاقتصادية، وتحالفاتها، تبعاً لاختيارها لأحد الطريقين الاقتصاديين: الطريق الرأسمالي والطريق الاشتراكي.

ورغم مضي أكثر من ستين عاماً، منذ حصلت معظم هذه الدول على استقلالها السياسي، بقيت الحال كما كانت عليه، قبل اكتساب الاستقلال. فالمجاعات، والأمراض، والأمية لا تزال تجثم، على صدور الملايين من البشر في الكثير من هذه البلدان. والحلم الكبير الذي راود شعوب هذا العالم، وهي تقارع الاستعمار، بوطن حر كريم، ومجتمع سعيد، تهاوى تحت مأساوية هذا الواقع.

لقد اكتشفت هذه الشعوب، ومنها شعبنا العربي، بعد وقت طويل من التحمل والصبر، أن طرق التنمية التي سلكتها، لم تقدم لها الأجوبة المطلوبة للخروج من مأزق التخلف.

فالذين راهنوا على الطريق الرأسمالي، ولم يقوموا بتوطينه، فاتهم أن للزمن أحكامه، وأن مرحلتهم مغايرة كلية، من حيث طبيعتها وطريقة تكوينها، عن تلك التي تكون فيها النظام الرأسمالي الأوروبي، ذلك أن الرأسمالية الأوروبية، تنافست في مراحلها الأولى مع إقطاع، كان مسار الحركة التاريخية، ينبئ بأفول نجمه. وكان مسار الحركة التاريخية، والاكتشافات العملية، والثورات الاجتماعية في أوروبا قد أكدت، بما لا يقبل الجدل، أن فجراً جديداً للإنسانية قد بزغ.

في العالم الثالث، بقيت دعائم النظام الاجتماعي القديم على ما هي عليه. فالعلاقات البطركية، حسب توصيف المفكر الراحل هشام شرابي، ما زالت سائدة في البلدان التي توصف مجازاً بالنامية. والقوى الاجتماعية الجديدة، لم تؤثر إيجابياً في تطوير العملية الإنتاجية، واقتصر دورها على دور الوسيط، بين أصحاب المصانع في الدول المتقدمة، وبين المستهلكين في بلدان العالم الثالث.

وفي ظل وضع كهذا، بات التنافس غير متكافئ بين هذه الدول وبين الدول المتقدمة. إن وضعها في ذلك، هو أشبه بوضع لاعب شطرنج مبتدئ، ينازل لاعباً محترفاً بتقليده لحركاته، ناسياً أن اللاعب المحترف يملك حق النقلة الأولى، والخبرة التي تمكنه من تحريك البيادق، وتوجيه ساحة اللعب، بالطريقة التي تضمن تفوقه، وناسياً أن اللاعب المتفوق هو الذي يبدأ بضربة الكش. ولهذا فإن النتيجة هي خسارة اللاعب المبتدئ. وهو وضع يستحق الرثاء على أية حال.

أما دول العالم الثالث الأخرى، التي انتهجت الطريق الاشتراكي، فإن عملياتها في هذا السياق، اقتصرت على التأميم ونقل ملكية وسائل الإنتاج لصالح الدولة، باستعراضات كاريكاتورية. بقيت علاقات الانتاج كما كانت قائمة من قبل، مع فارق أن الدولة في ظل هذا النموذج هي التي تقوم بدور السيد المالك.

ونتيجة لعجز مؤسسات الدولة، وهيمنة كابوس البيروقراطية الثقيل على دوائرها، فقد انعكس هذا العجز على القدرة الإنتاجية والنوعية للقطاع العام، ما أدى إلى شل فاعليته وعجزه. ومن ثم إلى سيادة حالة من العجز والركود، في كل الفعاليات الاقتصادية التي تشرف الدولة على توطينها.

وهكذا كانت النتائج كارثية في تطبيق النموذجين الرأسمالي والاشتراكي. والسبب في ذلك هو غياب التوطين. وكان هذا الغياب شاملاً، وعلى كل الصعد، مسهماً في تعطل نشوء الدولة الوطنية على أسس عصرية، وقادرة على التماهي مع العصر الكوني الذي تعيش فيه.

لم يكن للإرهاب أن يتمكن من تدمير أوطان ومصادرة هويات، لو كانت أسس الدولة الوطنية راسخة وقوية، ولو كان بنيانها التنموي قادراً على الصمود.

ينتشر الإرهاب الآن في خط أفقي على مستوى العالم بأسره، ولكن تأثيراته التخريبية على شعوب العالم ليست بالقدر نفسه. والقانون التاريخي يؤكد أن الدول الأصلب تكويناً، والأكثر مراساً هي وحدها القادرة على إلحاق الهزيمة بالإرهاب، وقبره للأبد.