استدراك
المقال السابق لم يطل الوقوف على «الحقيقة» في ميدان الأدلوجيات المختلفة، وادعاء كل واحدة منها أنها هي الحقيقة، وأنها الحسناء التي تبرجت أمامه وخاطبته بلسان عربي فصيح: «خذني لحنانك خذني».
أنا من المؤمنين إيمانا ساطعا بأن «الإنسان كائن أدلوجي»، وأتميز غيظا حين أرى من هب ودب يدين الأدلوجيات، ويتخذ من تصدع بعضها سببا لإدانتها جميعا دون معرفة بالأسباب الخفية لذلك التصدع.
معظم الأدلوجيات ترسم لها أهدافا محددة بناء على قراءة الواقع، ومستوى النمو المعرفي آنذاك، وتبدأ السير على ضوء تلك الأهداف، غافلة عن مكر سنة التطور التي تعني: التطور الدائم للواقع «إنك لا تسبح في النهر مرتين» وبذلك تتصدع، وتكون خارج الزمن.
المفكر الراحل الدكتور محمد عابد الجابري يعيد ذلك إلى سبب آخر: «في كل أدلوجية جانبان: جانب «موضوعي» وجانب «ذاتي».. الجانب الموضوعي هو دراسة الواقع الاجتماعي وثقافته وجميع جوانب الحياة فيه وفهمها. والذاتي هو الأدلوجي بمعنى الحلم بأن يكون كذا وكذا..
الأدلوجيا في العالم العربي، بجميع أشكالها، فارغة من الجانب الموضوعي، فهي لا تنطلق من الواقع الحاضر وفهمه، بل من منطلقات أخرى. من منطلق التراث أو تقليد الآخر/ الجابري/ الخطاب العربي المعاصر/ ص200».
في تعليل الجابري ظلم صاخب للفكر العربي كله. لتعميمه على جميع الأدلوجيات، الأمر الذي أعطى لأنصاف المتعلمين الجرأة على إدانة الأدلوجيات كلها وإعطاء الأبواق فضاء أعلى لأصواتها المنكرة.
أن تحلم الأدلوجية بالأفضل لمصلحة المنابع التي انطلقت منها، ليس عيبا، فكل الابتكارات والأهداف النبيلة تبدأ حلما يومض من بعيد. والوصول إليه، طريقه واضح: هو العمل المكافح، ولكن بشرط واضح كذلك هو التنبه الدائم لتغير الزمن.
قد يكون الجابري على صواب في نواح عديدة من طرائق التفكير العربي مثل: سبق اللغة للتفكير المتمهل، والحماس حتى جنوح الخيال في الادعاءات الفارغة. وقد يكون أنه قال هذا من وجهة فلسفية كما هي ذهنيته الخصبة، ولكن التعميم ليس لائقا بقامته الشاهقة.
الأدلوجية لابد أن تكون منهجا للتفكير، لا رسما لأهدافه، إذ على الأهداف أن تكون دائمة التوالد من مصلحة الإنسان. الإنسان بدون إضافة. بدون صفة غير صفة وجوده على الأرض.