للقلوب إقبال وإدبار
يمر الإنسان بمحطات متعددة في حياته مختلفة من حيث الزمان والمكان فيكون معتدل المزاج تارة وقلبه مقبل على الله عز وجل ومتعلق به ومتلهف للعبادة بشتى أنواعها من واجبات ومستحبات. وتارة أخرى يعيش حالة من الإدبار والنفور والفتور وتقلب المزاج وتضعف لديه الرغبة في العبادة. فهل الأمر متروك له للإقبال على العبادة بواجباتها ومستحباتها حسب إقبال قلبه أو إدباره؟ أم أنه يجب عليه الإتيان بالواجبات والمستحبات بغض النظر عن الحالة المتقلبة لقلبه وعليه أن يقاوم ويكره نفسه؟
بالنسبة للفرائض فلا مناص من تركها وعلى المكلف أداءها سواء كان قلبه في حالة إقبال أو إدبار. والبعض يرى بأن ممارسة الضغط في جميع الأحوال هو السبيل الأمثل حتى في أداء المستحبات من صلاة النافلة وقراءة القرآن والأدعية وغيرها.
ولكن رسم المنهجية السليمة للتعامل مع النفس لم تغفلها الرسالة المحمدية كما ورد في عدة أحاديث منها ما ورد عن النبي الأكرم ﷺ: «إن للقلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فتنفلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة».
وقال أمير المؤمنين : «إنّ للقلوب إقبالا وإدبارا فإذا أقبلت فاحملوها على النّوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض».
وقال «فيما كتب إلى الحارث الهمداني»: وخادع نفسك في العبادة وارفق بها، ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها إلا ما كان مكتوبا عليك من الفريضة، فإنه لا بد من قضائها، وتعاهدها عند محلها.
وقال الإمام الرضا : «ان للقلوب اقبالا وادبارا أو نشاطا وفتورا، فإذا أقبلت بصرت وفهمت، وإذا أدبرت كلت وملت فخذوها عند اقبالها ونشاطها، واتركوها عند ادبارها وفتوره» ا.
الأحاديث واضحة وتدعو للين والرفق بالنفس وعدم تحميلها مالا تطيق في حال إدبارها، وعدم إجبارها على فعل المستحبات بل يكُتفى بالواجبات وذلك لحكمة ربانية لكي لا يحصل عندها نفور وابتعاد عن الساحة الإلهية. ذلك إذا كانت تتقلب بين الإقبال والادبار أو النشاط والفتور، فالرفق بها والتدرج معها أمر مطلوب.
أما إذا كانت تعيش في سبات عميق في حالة من الإدبار المستمر المتواصل فالأمر غير طبيعي وينبغي البحث عن الأسباب ومعالجتها. الأسباب كثيرة وتختلف من شخص إلى آخر حسب البيئة المحيطة به ومن هذه الأسباب حب الدنيا والتعلق به كما ورد عن رسول الله ﷺ: «حب الدنيا رأس كل خطيئة». ومن الأسباب كثرة المعاصي والذنوب، والغفلة، ولقمة الحرام، والانغماس في الملاهي والملذات، ومعاشرة رفقاء السوء، والجلوس في مجالس اللغو واللهو، والاستخفاف بحقوق الله والإعراض عنه وكفران نعمه، والعيش في بيئة تفتقر إلى الأجواء الروحانية التي تذكر بالله والآخرة، وكثرة الهموم والأحزان، والغفلة عن تقدير وتحديد الأولويات، والافتقار إلى الجانب الفكري والمعرفي.
دور المربي والموجه هو توضيح فضل وثواب الأعمال المستحبة وكذلك استخدام اسلوب الترغيب والموعظة الحسنة وتعميق المعرفة وتوضيح الأجر والثواب لكل عمل لكي لا ينفر الإنسان. إكراه الابن أو أي شخص على هذه الأعمال المستحبة أحيانا يكون له آثار سلبية بحيث يأتي بها بدون قناعة فقط لإرضاء الطرف الآخر في حال تواجده. بينما لو تم ذلك باتباع الأسلوب الأمثل الذي يخلق قناعة لدى الشخص ويجعله يؤديها من تلقاء نفسه وبدافع ذاتي لكان أفضل وأضمن للمواظبة عليها فكل تغيير لا ينبع من الذات يؤول مصيره إلى الفشل كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
النفس تمل والنفس تصدأ والنفس أمارة بالسوء ولا ينبغي أن تترك في جميع الأحوال في غفلتها وإدبارها بل تحتاج للمراقبة والمحاسبة والتذكير والترغيب في الخيرات من واجبات ومستحبات. قال رسول الله ﷺ: «إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال قراءة القرآن وذكر الموت». وقال أمير المؤمنين : «اجمعوا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان».
وأختم بهذا الحديث القدسي العظيم الذي يوضح الآثار الجميلة المترتبة على التقرب إلى الله بالنوافل؛ قول الله جل وعلا: «وما يتقرب عبدي إلي بشئ أحب مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».