اليوم التالي لسقوط «داعش»
الجميع مشغولٌ بوراثة «داعش»، لأن نهاية هذا التنظيم الدموي باتت قريبة. وثمة أراضٍ خصبة واستراتيجية وذات وفرة نفطية يجري دحره منها. والجميع مشغول بالسعي الحميم لملء الفراغ العسكري للتنظيم الذي استولى في غفلة من الزمن على نصف مساحة العراق وثلث مساحة سوريا، وأجزاء واسعة من ليبيا والصومال وغيرهما، في أسرع عملية سقوط للدول وإزالة للحدود!
قلنا سابقاً «هنا» إن «داعش» لا مستقبل له. وخرافة دولة الخلافة زائلة. وإن هذه العصابة الدموية لا تحمل مقومات الحياة، ولأن «من سل سيف البغي قتل به».
الأميركيون والأتراك والعراقيون بكل أطيافهم، يسابقون الزمن لملء الفراغ الذي سيحدثه غياب «داعش»، الجميع يظن أن اليوم التالي لسقوط التنظيم سيعبد الطريق لوصول قواته إلى معاقل التنظيم المتهالك، حيث يرث الأرض ويرفع رصيده السياسي في حلبة الاشتباك المحلية والإقليمية والدولية.
التاريخ القريب يقول إن التنظيمات المتشددة يمكن هزيمتها عسكرياً، كما حدث ل «القاعدة»، ولحركة طالبان، ويمكن تفكيك مراكز القيادة والسيطرة، لكن لا يمكن إنهاؤها من الوجود، فإنها ترتد سريعاً لباطن الأرض، تعمل في الظلام وفي الخفاء وتتحول إلى عصابات عنف مسلح ذات تنظيم عنقودي، أو تتبنى استراتيجية الذئاب المنفردة، فتصبح على الدوام مصدر تهديد للدولة وللنظام العام. لا نحتاج إلى منجمين لكي يستطلعوا لنا اليوم التالي لهزيمة «داعش»، ذلك اليوم قد بدأ فعلاً، ويمكن مشاهدته في الذئاب المنفردة التي تستهدف الأمن في فرنسا وبريطانيا وعموم أوروبا والولايات المتحدة والدول العربية، رجال كخالد مسعود المهاجم الذي نفذ اعتداء لندن، يمثل جيلا جديدا من الإرهابيين الذين يرسمون ملامح اليوم التالي لسقوط «داعش»، رجل من مواليد مدينة «كنت» في جنوب شرقي إنجلترا، وعمره 52 عاما، رغم سوابقه الإجرامية فلم يشتبه جهاز الأمن بكونه صاحب ميول إرهابية مطلقاً. مثله مثل الفرنسي من أصول تونسية محمد لحويج بوهلال، الذي ارتكب مجزرة نيس في 14 يوليو «تموز» 2016 حين هاجم بشاحنة حشدا من الناس كانوا يحتفلون بالعيد الوطني وقتل ما لا يقل عن 84 شخصا، وقال رئيس الوزراء الفرنسي عنه إنه «تحول إلى التطرف منذ فترة قريبة»، وعشرات الإرهابيين الذين شهروا سكاكينهم فجأة في وجوه الأبرياء، أو قادوا سياراتهم باتجاه الضحايا، أو وضعوا المتفجرات في وسائل المواصلات، أو استهدفوا أماكن العبادة، كلهم تقريباً كان بعيداً عن الشبهة.
لذلك يمكن أن يتم ملء الفراغ العسكري ل «داعش»، لكن «داعش» يتمدد في فضاء أوسع كثيراً من الخريطة السوداء التي يبسطها على رقعة واسعة من البلدان، وسر التمدد أن هناك بنية فكرية تمثل بيئة حاضنة لهذا الفكر قادرة على استنباته ورعايته من جديد.
بيت القصيد، أن «داعش» يتغذى على فكر ظلامي، وينمو في بيئة سياسية فاسدة. ومن يرد أن يحارب التشدد والإرهاب فعليه أن يجفف منابعهما. لا بد من مواجهة الفكر الداعشي المتمرد على الدولة، والقائم على نقض السلم الأهلي، ومواجهة الفكر الإقصائي الذي يتوسل بالعنف والقهر ويزدري المنطق والفلسفة والفكر النقدي.
لكن المواجهة الفكرية وحدها ليست كافية، لا بد من بيئة سياسية تمنع القمع والاستبداد والقهر وتعطي الناس شيئا من الحرية. والحذر كل الحذر من تخويف الناس ودفعهم قسراً إلى أسفل الأرض حيث المناطق المظلمة والسرية، فهناك يتفرخ الإرهاب وتنمو بذور التشدد.