آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

ثقافة القطيع

محمد أحمد التاروتي *

جاء في وصية امير المؤمنين الى كميل بن زياد الناس ثلاثة: عالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.

يتحدث الامام علي عن صنف واسع من البشر، لا يمتلك الرؤية في توجيه بوصلة المواقف، سواء السياسية، او الاجتماعية، او الدينية، حيث يتخذ الموقف السائد بعيدا عن الصواب او الخطأ، نظرا لافتقاره للقدرة على التمييز بين الأبيض والأسود، مما يدفعه لانتهاج سياسة المداهنة، والتماشي مع الصوت المرتفع، الامر الذي يحرمه من التمسك بالرأي المستقل المنطلق، من القناعات الشخصية.

تلعب وسائل الاعلام الرسمية، دورا في توجيه السواد الأعظم، من المجتمع باتجاه المواقف المتوافقة، مع الموقف الرسمي، حيث تقوم الماكنة الإعلامية، بعملية مبرمجة لغسيل الادمغة، نحو المواقف المتسقة مع المواقف الرسمية، خصوصا وان القاعدة الشعبية، تمثل سندا قويا في السير قدما، في انتهاج تلك المواقف، بمعنى اخر، فان تحول المزاج الشعبي، باتجاه مغاير يشكل خطورة كبرى، مما يدفع الجهاز الإعلامي لممارسة دور كبير، في تكريس المواقف الرسمية.

عملية تكريس ثقافة القطيع، مرتبطة بالأدوات المستخدمة، في الجهاز الإعلامي، فالمفردات المستخدمة في الصراعات العسكرية، تختلف عن الكلمات المتداولة، في النزاعات السياسية، وكذلك الامر بالنسبة للخلافات الاجتماعية، وبالتالي فان الوسيلة المستخدمة، تمثل احد العناصر الهامة، في القدرة على استقطاب القطيع، في الصراع مع الطرف الاخر، الامر الذي يفسر تمكن البعض من اكتساب القاعدة الشعبية، واخفاق البعض الاخر، في إدارة معركة اجتذاب القطيع في تبني مواقفه، مما يفقده القدرة على إدامة الصراع لأطول وقت ممكن، جراء فقدان القطيع المساند لدعم المعركة القائمة.

ثقافة القطيع، ليست بدعا من الزمن، فاستخدام هذه الطريقة، في دعم المواقف على اختلافها، قائمة منذ العصور السلفية، فالقرآن يتحدث بصراحة، عن استخدام القاعدة الشعبية، في الوقوف امام حملة الرسالات الإلهية، ﴿قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون و﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ، مما يعطي دلالة على وجود هذه الثقافة، لدى الكيانات البشرية، لمواجهة المواقف الأخرى، حيث تلعب المفردات المستخدمة، دورا أساسيا في تشكيل قوة، وعدد القطيع، في المجتمع الواحد، فالقطيع يتباين من كيان اجتماعي لآخر.

غياب الوعي أحيانا، والتصديق بمخاطر تتهدد المجتمع، ثغرات يحاول الجهاز الإعلامي الولوج، من خلالها لتشكيل ثقافة القطيع، خصوصا وان الثقة المفرطة في الاعلام، تدفع البعض لتبني المواقف دون تفكير، مما يشكل خطورة كبرى في المستقبل، لاسيما وان طريق الرجعة يصبح صعبا في كثير من الأحيان، نظرا لبزور المواقف الصريحة للعلن، الامر الذي يستغله الاعلام في توريط الجزء الأكبر، ومحاولة قطع الطريق امام شرائح عديدة، لإعادة النظر في المواقف السابقة، وبالتالي، فان التفكير المستقل، يمثل طوق النجاة لإفلات من مصيدة ”القطيع“، التي ينصبها الاعلام في طريق المجتمع، في مختلف الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، فالمطلوب في جميع الأوقات، خلق ”قطيع“ يتبني المواقف الرسمية، دون وعي بمخاطر الأفخاخ المنصوب في الطريق.

كاتب صحفي