ثقافة الانصاف
حب الذات امر متعارف عليه، ومسلم به، ولا يختلف عليه اثنان، فالمرء يقدم ذاته للاستئثار بحصة الأسد، بحيث يتجنب القسمة على اثنين، في اكثر الأشياء سواء المادية والمعنوية، فالمناصب العليا لا ينازعه عليها احد، والثروة يقاتل في سبيل الاستحواذ عليها، او رمي الفتات للآخرين.
عملية تطويع النفس، للتخلي عن الاحتفاظ بالاشياء، تتطلب جهدا كبيرا، وقدرة ليست متاحة لغالبية البشر، لذا وصف النبي الاكرم ﷺ ”محاربة النفس بالجهاد الأكبر“، خصوصا وان هناك صراعا مريرا بين النفس الامارة والعقل، فيما يتعلق بتقويم السلوك البشري، في مختلف المعاملات طوال حياة الانسان، فعملية السيطرة على نوازع الشر، تتطلب مداومة، وليست معركة مؤقتة.
القدرة على السيطرة على الاهواء الشيطانية، تختلف من شخص لآخر، فالاختلاف مرتبط بالمبادئ التي يُؤْمِن بها البشر، فهناك من ينطلق من المعتقدات الدينية، التي تحث على الانصاف، وتحرم الغدر بالآخرين، مهما كانت الأسباب، بينما ينطلق البعض الاخر من الفطرة البشرية السليمة، والأخلاقية الانسانية الفاضلة، التي تدفع باتجاه إعطاء الحقوق لاصحابها، خصوصا وان الاحتفاظ بأملاك الآخرين خيانة كبرى، وتتناقض مع المروءة، الامر الذي يفسر انتشار مثل هذه السلوكيات، في مختلف المجتمعات الانسانية، على مر العصور والازمان، بالتساوي مع طغيان السلوكيات الأخرى، التي تبيح الاستيلاء على حقوق الآخرين.
الانصاف من سلوكيات الخير، التي تتطلب إرادة قوية، خصوصا وان عملية احقاق الحق، من الممارسات الأخلاقية الصعبة، نظرا لارتباطها بجميع الأمور الحياتية، سواء على الصعيد الفردي، او الاسري، او الاجتماعي، بمعنى اخر، فان دائرة ميزان العدالة، ليست محدودة ضمن نطاق ضيق، فهي قابلة للاتساع بقدر شبكة العلاقات الانسانية، لدى الفرد، فكلما اتسعت الدائرة، كلما كبرت الالتزامات الأخلاقية، لتغليب مبدأ الانصاف على الاهواء الشيطانية، الداعمة للاستيلاء على تلك الحقوق.
نصب ميزان الانصاف في مختلف القضايا، أمر بالغ الأهمية لترويض النفس، وعدم خروجها عن السيطرة، فالمرء الذي يرخي العنان لأهوائه، في جميع التعاملات، لا يحصد سوى الوبال، وعدم القدرة على الخروج، من دائرة الظلم، مما يشكل خطورة كبرى على الصعيد الفردي بالدرجة الاولى، والاجتماعي في الإطار الثاني، ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ﴾.
الأمانة تمثل ابرز مصاديق الانصاف، في الثقافة الإسلامية، حيث تعتبر خيانة الأمانة من اكبر الذنوب، التي تستحق العقاب في الدنيا قبل الآخرة، فالشخص الأمين يحظى باحترام كبير من لدن المجتمع، خصوصا وان الأمانة صفة أخلاقية يصعب امتلاكها، فهي على النقيض تماما مع الاهواء الشيطانية، التي تستحوذ على شرائح واسعة من البشر، الامر الذي يتمثل في عمليات الاختلاس والسرقة، اذ لا تقتصر خيانة الأمانة على الأموال، بل تشمل الجوانب الثقافية، فالبعض لا يتورع عن الاستيلاء، على النتاج الفكري للآخرين.
انتهاج مسلك الانصاف في السلوك الحياتي، لا يرتبط بجانب دون اخر، فالمجتمع الذي يضع خطوطا حمراء، امام بعض الممارسات، وأخرى خضراء امام سلوكيات أخرى، يفشل في وضع إطار حاكم على الجميع، بحيث تطغى المحسوبية على قانون العدالة، الذي يفترض ان يكون فوق الجميع، ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.