«21 مارس».. مَنْ رآه يَمرّ؟
كتبت قبل عامين ونصف تقريباً، وعلى هذه الصفحة تحديدا، وفي المناسبة نفسها، مقالا تحت عنوان «خُذونا على مَحْمَل الجِدّ». استقيت العنوان من وثيقة اليونسكو الخاصة باقتراح «21 مارس» يوماً عالمياً للشعر وبالتحديد من فقرة هذا نصها: «يوجد اتجاه لدى وسائل الإعلام والجمهور العريض إلى عدم أخْذ الشاعر على مَحْمَل الجِدّ». وتساءلت: لماذا لا يأخذ الإِعلام والجمهور الشعراءَ على ذلك المحمل أسوة بغيرهم؟ هل لأنهم رومانسيون حالمون؟ مرحبا بالرومانسية مأوىً واستراحةً تنسينا، ولو إلى حين، الأجواء الملبدة بدخان المعارك العبثية. ومرحبا بالرومانسية التي توقظ الضمائر. ومرحبا بها وسيلةً للبحث عن معنى للوجود.
هذا العام وخلال مطالعاتي الجديدة وجدت سببا آخر يدعو الجمهور للانصراف عن الشعر والشعراء. فالشاعر وفقا للكاتب الأرجنتيني الأصل ألبرتو مانغويل - يطرح أسئلة مقلقة «وهذا يجعل من المبدع شخصية مربكة في مجتمع يتوق، مهما كلف الأمر، إلى الاستقرار والفعالية كي يحقق أقصى منفعة اقتصادية ممكنة».
الجمهور، وفقا لهذا المنطق، يبحث عن أجوبة واضحة ومحددة: «يا أبيض يا أسود» وهو منطق الأيديولوجيات أيضا. أما المبدعون فيطرحون أسئلة تناقض ذلك اليقين الذي يضمن نوما هادئا ومنتظما، ويحقق استرخاء عقليا وفكريا.
لكن، لماذا نلوم الجمهور وقد سبقهم إلى ذلك الموقف من الشعراء أشهر فلاسفة اليونان. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فنفاهم من مدينته، لأنهم، كما يزعم، لا يشيدون «شيئا حقيقيا». كان أفلاطون يبحث عن المنفعة، فلم يعترف سوى بالشعر المكرس للوعظ. وكان ينبغي أن يقال له حينذاك: «رويدك يا سيدي الفيلسوف، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. إن مدينتك المثالية المتخيلة ستكون معتمة بدون أولئك الشعراء». وهو ما ينبغي أن يقال للساسة وواضعي خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كل زمان ومكان.
وللشاعر أبي تمام رأي آخر في «المنفعة» التي يبحث عنها النفعيون، عبر عنه بقوله: «ولولا خِلالٌ سنَّها الشعر ما درى/ بغاةُ العلا من أين تُؤتَى المكارم». ولو أعدنا صياغة هذا الكلام صياغة أكثر حداثة تخرجه من تقريريته المباشرة، فسنقول: إن القيم الجميلة التي يستثيرها الشعر ولا يسنّها تتسلل إلى النفس البشرية على شكل شحنات مستمرة، وبذلك تبقى الاشعاعات المضيئة التي تبثها كلمات المبدعين ضرورة حياتية. فمرحبا ب «21 مارس» الذي يذكرنا بحقيقة هذا الفن الجميل.