إعادة الاعتبار للعلاقات العربية - العربية
بعد مرور ست سنوات على طوفان الخريف العربي، لا تزال الحرائق تشتعل في عدد من البلدان العربية. ورغم أن هناك بوادر تشير إلى توافقات دولية، لتهدئة الأوضاع في المنطقة بأسرها، ليس هناك ما يشي بأن نتائج الانهيارات التي شهدتها الأمة ستتم معالجتها، وأن الجروح سوف تلتئم سريعاً.
ورغم الاعتراف بدور التسويات الدولية، في معالجة هذه الأزمات المستعصية، لكن الحلول الجذرية للأزمات العربية، لن تأتي من خارج المكان. وقديماً قال أجدادنا ما حك جلدك غير ظفرك. إن حل الأزمات بالوطن العربي، هي مهمة ينبغي أن يضطلع بها العرب أنفسهم، لأنهم المعنيون بها، أولاً ولأن تأثيراتها السلبية، تنالهم بالدرجة الأولى، مهددة أمنهم الوطني والقومي.
لكن التاريخ، رغم مكره، لا يكرر نفسه، بطريقة ميكانيكية، بل يأخذ أشكالاً مختلفة، حد التناقض في كثير من الأحيان. ومن هنا فإن أي جهد عربي مؤسسي ينبغي أن تكون نقطة البداية فيه، إعادة تقييم واقع النظام العربي الرسمي، ومؤسساته، التي مضى على تأسيسها أكثر من ستة عقود، منذ تأسست جامعة الدول العربية، في نهاية الحرب العالمية الثانية.
لقد تشكل النظام العربي الرسمي الحديث في ظل مطالبة شعبية، بقيام نوع من الاتحاد بين الأقطار العربية، وذلك لتعضيد التطلعات القومية، والعمل على تحقيق استقلال البلدان التي ما زالت تعيش تحت وطأة الاحتلال الأجنبي.
في تلك الظروف، جرى التوصل إلى حل وسط، يؤمن، التشاور والتنسيق والتعاون بين الدول العربية التي تمكنت من إنجاز استقلالها السياسي. وتم اقتراح تشكيل تكتل عربي، يمثل الحكومات العربية المستقلة، انتهت بعد مداولات ومشاورات ومباحثات بقيام جامعة الدول العربية.
نصّ بروتوكول الإسكندرية الذي وقع في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 1945 على إنشاء جامعة الدول العربية، وأن تعتمد قراراتها على قاعدة الإجماع في التصويت، وفي حالة تعذر ذلك، تكون تلك القرارات ملزمة لمن يقبلها. كما نص البروتوكول على عدم جواز اللجوء للقوة لفض المنازعات التي قد تنشأ بين عضوين أو أكثر من أعضاء الجامعة، وأعطى المجلس الحق، لأعضاء الجامعة وأمانتها العامة، في التوسط في أي خلاف أو حرب تقع بين الدول الأعضاء أو بينها، وبين أي دولة أخرى خارج الجامعة، وألحق بالبروتوكول ملحقان أحدهما قرار خاص باستقلال لبنان وسيادته بحدوده القائمة، والآخر ينص على تأييد الحق العربي في فلسطين، وعلى ضرورة مساهمة الحكومات والشعوب العربية في صندوق الأمة العربية لإنقاذ أراضي العرب في فلسطين.
وفي مارس/آذار عام 1945، صدر ميثاق جامعة الدول العربية، الذي نص على أنها منظمة عربية ودولية. استناداً إلى الميثاق الذي وقعه سبعة من الملوك والرؤساء العرب في القاهرة في 22 مارس/آذار 1945، باعتبارها حكومات مؤسسة لهذه المنظمة، هي: مصر والسعودية والعراق وسوريا ولبنان واليمن والأردن. وقد انضمت إلى الجامعة بقية الأقطار العربية الأخرى بعد تمكنها من إنجاز استقلالها السياسي.
اللافت للنظر، أن أعرافاً غير مكتوبة سادت العلاقات العربية - العربية، ومن ضمنها أعراف تخص هيكلية وطريقة عمل جامعة الدول العربية. فمع أنه لا يوجد نص رسمي في الميثاق أو اللوائح التابعة للجامعة يشير إلى أن أمينها العام، ينبغي أن يكون مصرياً، لكن مصر ظلت على الدوام تحتفظ بمنصب الأمين العام لها، منذ تأسيس الجامعة حتى يومنا هذا. الفترة الوحيدة التي جرى فيها تعيين أمين عام من خارج مصر كانت خلال فترة القطيعة العربية مع نظام الرئيس أنور السادات، إثر توقيعه معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، حيث عُيّن للأمانة العامة السيد الشاذلي القليبي، من القطر التونسي، الذي أصبحت بلاده مقراً مؤقتاً للجامعة.
العرف الآخر الذي جرى الأخذ به هو الإقرار بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة كل قطر من قبل الأقطار العربية الأخرى. لكن في كل الأحوال، كانت هناك استثناءات وخروقات سواء لما جرى الاتفاق عليه بموجب الميثاق، أو ما تم التوافق عليه عرفياً.
كانت الجامعة في حقيقتها انعكاساً موضوعياً وحقيقياً لواقع النظام العربي الرسمي وطبيعة العلاقات بين الأقطار العربية، وكانت الخلافات بين قطرين رئيسيين من الأقطار العربية كافية، لأن تشل عمل الجامعة وتعطل حركتها.
وفي هذا الصدد، فإن الخروقات والأزمات كبيرة وكثيرة يستعصي إحصاؤها. كانت الأحلاف والعلاقات الحميمة موسمية، سرعان ما تنهار إثر تعرضها للرياح.. ومن سوء طالع هذه الأمة أن الرياح والأعاصير التي تواجهها كانت ولا تزال كثيرة، وكانت الأحداث تأخذ مكانها بسرعة مذهلة. ومع كل حدث كان هناك موقف عربي رسمي وشعبي مؤيد أو مناوئ، وكان الحدث الواحد بمفرده يشكل محطة رئيسية في صياغة العلاقات السياسية والاقتصادية بين هذا النظام أو ذاك، والمحطات كثر.
كان النظام العربي الرسمي مشغولاً في مشكلاته الخاصة، بينما كان المشروع الصهيوني يتقدم، ويستكمل بنيانه بالتمدد والتوسع السكاني والمكاني. ولم تستطع الهياكل والمؤسسات العربية التي أنشئت في نهاية النصف الأول من القرن الماضي أن تتقدم خطوة واحدة على طريق تحقيق الأماني والآمال المشروعة للشعب العربي.
ومنذ ذلك التاريخ سالت مياه كثيرة وتغير النظام الدولي، المستند على وجود معسكرين متنافسين في رؤيتهما السياسية ومناهجهما الاقتصادية، وسقطت الحرب الباردة. والتنافس الدولي حالياً يقوم بين أنظمة في الشرق والغرب، ولكنها تنتمي لمنهج اقتصادي واحد. والمحاور التي ينتظر لها أن تبرز قريباً، لن تتأسس على قواعد عقائدية، بل على أسس جيوسياسية.
إن ذلك يعني أن ارتباطنا بأي من هذه المحاور، ينبغي أن يضع في الاعتبار أولاً وحدة الموقف العربي، والتصدي للأزمات المستفحلة، ومصلحة الأمة العربية، في الاصطفاف بهذا الخندق أو ذاك. والأهم من ذلك هو إعادة تشكيل الهياكل والمؤسسات العربية، بشكل مبادر ومبدع وخلاق وعلى ضوء الحقائق الكونية الجديدة.