ثورة اجتماعية «17» المستشرقون
كان اجتماعنا هذا لتسجيل الحلقة السابعة عشر من حلقات ”الثورة الاجتماعية“. وكما ذكرنا سابقا لقد كان ذلك بعد وصول ولدنا البكر منهيا دراسته الجامعية بتفوق. لكنه لم يعد محملا بالشهادة، وبهم البحث عن الكسب والمعيشة فقط، ولكن محملا ايضا بهم انتقاد عاداتنا وتقاليدنا ومعتقداتنا.
كان جلوسنا ذاك في احد ايام شهر جمادى الاولى من هذه السنة بعد الظهر، على غير عادتنا ليلا في كل مرة، وفي فناء الدار بدل من داخله، وذلك لاعتدال طقس البلاد وميله للبرودة، مما يشجع على الخروج الى البرية، والاستمتاع بالفضاء الواسع الذي لا يحويه البصر. ولكن امطار الرحمة والبركة منعتنا من مغادرة الدار، فكان جلوسنا تحت المظلة الحديدية، مكان وقوف سياراتنا. وكان غذائنا حسب ما هو مألوف في الرحلات البرية المشويات المعدة على الفحم الحجري او اغصان الاشجار الجافة.
استعد ابننا بعد الاستاذان ليسأل: ماذا قال المستشرقون الاوربيون عن الامام الحسين وثورته؟
ثارت والدته قائلة: وهل نحتاج الى اقوال المستشرقين وكلام الغرب بعد كلام نبينا محمد ﷺ في ابنه وحفيده الحسين : «الحسين مني وأنا من الحسين، أحب الله من احب حسينا»
قامت ابنتنا لتهدئة والدتها قائلة: لا عليك يا امي. المسلمون تعودوا عدم الاهتمام بما عندهم من ثروات وخيرات حتى يستخرجها لهم الغرب من تحت الثرى ومن تحت ركام النسيان ويثني عليها. فكم عندهم من نفائس العلوم ورجالات العلم، لم يعرفوا قدرها ومنزلتهم حتى استخرجها لهم الغرب من تحت ركام الجهل والنسيان.
ومع ذلك من هو المستشرق الاول الذي تريد التحدث عنه يا والدي؟
جزيت خيرا يا ابنتي.
هو عالم الآثار الإنكليزي وليام لوفتس:
وماذا جاء في تقرير هذا المستشرق يا والدي؟
جاء في كلام السيد لوفتس: «لقد كانت شهادة الامام الحسين ابلغ واعظم شهادة في تاريخ الانسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة».
وماذا نقول يا والدي؟
نقول: لقد اعترف ان الامام الحسين لم يكن مختصا بالمسلمين فقط، بل مثالا يحتذي به كل البشر دون استثناء، وانه قد ضرب اروع الأمثلة في التضحية والفداء، فسجل اعظم وأبلغ شهادة في تاريخي الانسانية، لا يمكن لأي إنسان مهما بلغ من الضعف ان يعفي نفسه من اداء واجب التصدي الى الظلم والعدوان والدفاع عن حريته وكرامته" كما قال رسول الله ﷺ: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فذلك اضعف الايمان»، صدق رسولنا الكريم. اذا رغم مأساته المفجعة، من تقطيع اعضائه وتمزيق اوصاله فوق رمضاء كربلاء، ودهس جسمه الشريف بحوافر الخيل، محاولة من اعداءه لإنهائه وانهاء ذكراه من الوجود، تحولت تلك المأساة من تهور وجنون وخروج عن العقلانية والتدبر، كما يضن البعض، الى بطولة متعالية لا مثيل لها ابدا.
من هو المستشرق الثاني، يا حاج؟
هو المستشرق الألماني ماربين:
وماذا قال هذا المستشرق؟
قال المستشرق ماربين: «قدم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعز الناس لديه، ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما، وأثبت ان الظلم والجور لادوام لهما، وأنّ صرح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر إلاّ أنّه لا يعدو أن يكون - أمام الحق والحقيقة - سوى ريشة في مهب الريح».
وماذا نقول يا حاج؟
نقول: لقد قدم الامام في طريق التضحية والفداء، ذلك الدرس الذي لم يفهمه بعض المسلمون حق الفهم حتى الان، فذهب البعض منهم يمنة ويسرة ليستقون دروس التضحية والفداء ممن هم عالة على مدرسة الحسين . فهو لم يبقى بعيدا في سلامة وامان، وأرسل مجموعة من الجنود والمرتزقة ليقتلوا، واحتفظ بأولاده واهل بيته في المدينة المنورة، انتظارا لنتيجة الحرب ولاستلام مقاليد الحكم، بل قدم ابناءه ليقتلوا اولا في سبيل الله وسبيل مبدئه. كما انه قدم درسا اخر حينما استطاع بكل جداره اثبات مظلوميته، بوقوفه امام القوم يسألهم لما يقاتلونه، الدم سفكه ام لجراحة احدثها؟ فلم يستطيعوا ان يجيبوه. فطلب منهم ان يدعوه يرجع من حيث اتى، او يتوجه الى اي ناحية اخرى!! ولكن كان جوابهم، اما الذلة للطاغية يزيد او سلة السيف والقتل. كما انه اثبت احقيته لمنصب الامامة عندما بين للقوم من هو ومن هو جده، ومن هو أحق بالاتباع هو وجده ام يزيد ومن تبعه. فادخل بهذا الاسلام الحق المحمدي الى سجل التاريخ، لا اسلام يزيد وجلاوزته، وكذا المسلمين الذين اتبعوه على الحق، ذاع صيتهما مدويا بين الامم. بل اكثر من ذلك، اثبت للعالم بما لا يجعل مجالا للشك، ان الظلم والجور مهما بدى قويا متماسكا من الخارج، بما يملك من العدة والعتاد والجنود والاعوان، لا يعدو كونه ريشة ضعيفة لا حول لها ولا قوة في مهب رياح الحق والحقيقة، وان مآل الظلم والجور الى الدمار والخراب والزوال، مهما طال الزمان. وهذا ما حدث لدولة بني امية بالفعل التي انتهت وانقرضت، حتى ان مؤسسيها ليس لهم اثر ولا وجود الا على السن شذاذ الافاق ومحرفي الكلم عن مواضعه.
من المستشرق الثالث يا والدي؟
انه: الروائي الإنكليزي المعروف جارلس ديكنز:
وماذا جاء في تقرير هذا الروائي، يا والدي؟
نعم يا ولدي.
جاء في تقريره: «إنْ كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام».
وماذا نقول يا والدي؟
نقول: ان ديكنز قد نفى دعوى شذاذ الافاق ان هدف الامام الحسين من حركته تلك الخروج على امام زمانه وطلب الدنيا والرغبة في السلطة والحكم، فلو كان كذلك لماذا اصطحب معه الاطفال والنساء!! فيخلص دكنز الى استنتاج وحيد: ان العقل المبرأ من الأهواء لا العاطفة المتصلة بأهداف دنيوية رخيصة تحكم ان ما قام به الحسين هو التضحية من اجل بقاء الاسلام وتثبيت جذوره في الارض، إثباتا لمعجزة جده ﷺ حيث قال: «حسين مني وانا من حسين».
من هو المستشرق الرابع، يا والدي؟
نعم يا بني، هو الروائي ديكنز ايضا.
وماذا جاء في تصريح هذا الروائي؟
جاء في تصريحه: «الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا».
وماذا نقول يا والدي؟
نقول: أننا لا نستغرب بسالة وشجاعة للإمام الحسين والمجموعة المؤمنة التي التحقت به في كربلاء امام الالوف المؤلفة التي ارسلت لقتالهم، ولا نستغرب رغم بعد الزمان بيننا وبين وقت قوع الحادثة، فإنها لازالت تثير فينا الاعجاب والاكبار، لأننا نعايش هذا الحدث سنويا ان لم نقل شهريا، حتى غدا جزءا من قلوبنا وارواحنا. بل إكبار وإعجاب غير المسلمين، مما يدلل على مصداقية تلك المواقف وانها لم تقم طلبا لدينا رخيصة او تزلفا لحاكم طاغ. مما يعزز إيماننا بتلك الواقعة وبأصحابها، وكما قيل «والحق ما شهدت به الاعداء».
من هو المستشرق الخامس، يا والدي؟
نعم يا ابنتي، انه: الباحث الإنكليزي جون أشر:
وماذا جاء في اقوال جون أشر، يا والدي؟
جاء في كلامه: «إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي».
وماذا نقول يا والدي؟
نقول: إن هذا مدار بحثنا، فاستشهاد الامام الحسين لم ينطوي على اعظم وانبل معاني التضحية والفداء فقط، بل كان في سبيل العدل الاجتماعي الذي كان مفقودا بين المسلمين منذ اغتصاب بني امية للخلافة الاسلامية. ولم يكن مجرد انقلابا على امام زمانه، فميتته ميتة جاهلية، كما يحلو للبعض تسويقه ضد شباب اهل الجنة، وتثبيتا الدعائم اركان نظام حكم على نفسه بالانهيار بعد هذه الحادثة الشنيعة.
من هو المستشرق السادس، يا حاج؟
نعم يا سيدتي، انه: المستشرق الهنغاري أجنانس كولدسيهر:
وماذا جاء في تقرير هذا المستشرق؟
جاء في تقريره: «قام بين الحسين بن علي والغاصب الأموي نزاع دام، وقد زودت ساحة كربلاء تاريخ الإسلام بعدد كبير من الشهداء.. اكتسب الحداد عليهم حتى اليوم مظهراً عاطفياً.»
وماذا نقول نحن؟
نقول: تاكيده ان الحكومة الاموية غاصبة للخلافة والحكومة الاسلامية، فهو لم ياتي بشيء جديد، فهي لم تستلم السلطة برضى الناس واختيارهم، بل بغشهم وخداعهم وشراء الضمائر الميتة، وهذا ما يعرفه الجميع. ولم يكن بين الامام وجلاوزة النظام ردعا لغاصب ظالم ولا رد لمعتدي غاشم، بل كما قال عمر بن سعد: «اقله ان تطير في الرؤوس وتقطع فيه الايدي»، فسقط في سبيل الاسلام الكثير من الشهداء الابرار، ولم يتعدى الحداد عليهم من يومهم ذاك الى يومنا هذا الى الاعتداء على الاخرين انتقاما وتشفيا من الاخرين، بل استمر محافظا على المظهر العاطفي. مما يدل على رقي ومثالية من يقتدي بأولئك الافذاذ الذين ضحوا بأرواحهم قبل أبدانهم من اجل ان تعم العدالة الاجتماعية بين الناس.
ومن هو المستشرق السابع في مشوارنا هذا، يا والدي؟
نعم يا ابنتي.
انه الكتاب الإنكليزي توماس لايل.
وماذا جاء في كلام هذا الكاتب، يا والدي؟
جاء في كلامه تعليقاً على تأثّره من بعض قوافل الحداد الحسيني: انه «لم يكن هناك أي نوع من الوحشية أو الهمجية، ولم ينعدم الضبط بين الناس.. فشعرت في تلك اللحظة وخلال مواكب العزاء وما زلت أشعر بأني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الإسلام، وأيقنت بأن الورع الكامن في أولئك الناس والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزا العالم هزاً فيما لو وجّها توجيهاً صالحاً وانتهجا السبل القويمة، ولا غرو فلهؤلاء الناس واقعية فطرية في شؤون الدين.»
وماذا نقول يا والدي؟
نقول: ان سبب تأثر السيد لايل الكبير لرؤية القوافل الحسينة وهي تمر امام عينيه، انه لم يرى تلك الهمجية وعدم الوعي التي يتكلم عنها الاعلام الغربي والتي عادة ما يلصقها بالإسلام والمسلمين. هذا وهو لا يؤمن بالحسين ومبدأه، فكيف بحال بمن خالط حبه ومبدأه شغاف القلب قبل اللحم والعظم. وشاهد رغم طول تلك المسيرات وكثرة الناس الانضباط والتقيد بالنظام، وهذا ما يخالف ايضا النظرية الغربية: من ان المسلمين همج رعاع متخلفون يحتاجون الى من يحتل بلادهم ويستولي على مصادرهم الطبيعية ويسرق خيراتهم، لكي يعلمهم الديمقراطية ويصدر اليهم التطور والحضارة. كما انه شعر بانه قد توصل الى ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الاسلام، تلك الحيوية والنضج التي اراد الامويون اخماد لهيبها، ليعود الناس الى جاهلية ما قبل الاسلام، فيتسلط عليهم الجبابرة والفراعنة، يستعبدون رجالهم ويستحيون نسائهم. فايقن حينها ان الورع الكامن بين جوانح هؤلاء المعزين، والحماسة المتدفقة فيهم، بإمكانها هز العالم وإيقاظه من سباته، لو وجهتا توجيها سليما صحيحا، وضمن السبل القويمة التي تخرج الناس من ظلمات الجهل والتخلف الى نور العلم والتقدم. وهذا ما يفتقده المسلمون من استثمار نتائج كربلاء، ليسودوا بها العالم باستعمال الوسائل الربانية القويمة، فيقودهم الى حيث العزة والكرامة، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» آل عمران 110. وينتهي الى خلاصة مفادها ان هؤلاء الناس يعيشون الدين بشكل واقعي وبفطرية لا متناهية، ولم يكونوا متخلفين فكريا وعلميا كآبائهم، فكانوا امة من بعدهم وعلى آثارهم مقتدون. وهذا بخلاف ما يقولهم بعض المتأسلمين من ان الشيعة كفار، وان ما يقومون به هو محض الكفر والنفاق، لذى يتوجب ابادتهم من الوجود لتخلو الدنيا للموحدين، حسب زعمهم.
من مستشرقنا الثامن، يا والدي؟
نعم يا بني، انهت: الكاتبة الإنكليزية فريا ستارك:
وماذا تذكر السيدة ستارك، يا والدي؟
انها تذكر: «إن الشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله ويعلنون الحداد عليه في عشرة محرم الأولى كلها على مسافة غير بعيدة من كربلاء حيث جعجع الحسين إلى جهة البادية، وظل يتجول حتى نزل في كربلاء وهناك نصب مخيمه، بينما أحاط به أعداؤه ومنعوا موارد الماء عنه؛ وما تزال تفصيلات تلك الوقائع واضحة جلية في أفكار الناس إلى يومنا هذا كما كانت قبل 1257 سنة، وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة أن يستفيد كثيراً من زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة؛ لأن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس وهي من القصص القليلة التي لم أستطع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء».
وماذا تقول يا والدي؟
نقول: ان هذا دليل على ان مأساة الحسين ما تزال حاضرة في عقول الناس المؤمنين بثورته وفي قلوبهم، حتى ولو لم يكونوا مسلمين بمحمد ﷺ ودينه، وان مراسم الحداد لا تزال بارزة للعيان رغم مرور ما يزيد على الاف سنة، وهذا يرى في جميع أنحاء العالم الاسلامي، وليس خاص بمنطقة جغرافية معينة، حسب زعم الكاتبة، مع ان اثار هذه الصحوة وصلت الى الدول الأوروبية نفسها. وكيف يستفيد من يزور كربلاء شيء من زيارته تلك، اذا لم تكن مصيبة الحسين حاضره في عقله ووجدانه. وقصة الامام الحسين بل ثورته وحركته ، لا يستطيع احد ان يقاوم تأثيرها، ولكن يجب ان يكون طاهر القلب نقي السريرة، ولم يكن ممن ختم الله على قلبه، واتبع هواه وكان أمره فرطا، لأن مصيبة الامام اذا ما وجدت أبواب القلوب قبل العقول مفتحة على مصراعيها، تغلغلت في الاعماق، وجعلت الانسان السوي يبكي من أعماقه، دون ارادة منه. فإذا كانت قصة الامام الحسين من القصص القلائل التي لم تستطع الكاتبة رغم كونها مسيحية وبعديه عن الاسلام وروحه ان تكبح جماحها عن البكاء، فهذا رد على من يحاول تحريم البكاء عموما وعلى مصيبة الامام الحسين بالخصوص، بعد ان صرح امام البشرية وسيد الرسل محمد ﷺ: «القلب يخشع والعين تدمع ولا نقول الا ما يرضي الله».
من هو المستشرق التاسع، يا حاج؟
نعم سيدتي ان هو: المؤرخ الإنكليزي جيبون ويكلي:
وماذا ذكر هذا المؤرخ، يا حاج؟
ذكر:: «إنّ مأساة الحسين المروّعة - على الرغم من تقادم عهدها - تثير العطف وتهز النفس من أضعف الناس إحساساً وأقساهم قلباً..؛ إنّ مذبحة كربلاء قد هزّت العالم الإسلامي هزاً عنيفاً، ساعد على تقويض دعائم الدولة الأموية».
وماذا تقول يا حاج؟
نقول: إن مأساة الامام الحسين لا يستطيع احد مهما تبلد إحساسه وجفت عاطفته من ان يهتز وجدانيا، فلقد هزت وجدان الكثير من امثال «عمر بن سعد ومروان ابن الحكم» وجعلته يبكي من عماقه، لكن ذلك لم يعينه على تغيير مسار حياته، كما غيرت مسار القائد التحرير «الحر بن زيد الرياحي». لكن هذه الفاجعة المروعة هزت وجدان العالم الاسلامي آنذاك، فقوضت اركان الدولة الاموية المتجبرة المتفرعنة، وهزت جدرانها وذرتها ذرو الريح الهشيم. وهذا ما لم يستوعبه البعض هذه الأيام حينما يسأل «لماذا قام الحسين وما الذي استفاده من حركته الا قتل نفسه واهله واصحابه»؟
من هو المستشرق العشر، يا والدي؟
نعم يا ابنتي، انه المستشرق الألماني فلهاوزن:
وماذا جاء في تقرير السيد فلهاوزن، يا والدي؟
جاء في تقريره: «بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فانّ لاستشهاده معنى كبيراً في مثاليته، وأثراً فعالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت. فهي تصبّ في ذلك المجرى؛ إذ كلّنا يعلم بأنّ مقتل الحسين هو الذي أرجع أغلب المسلمين إلى صوابهم بعد أن كان المتداول بينهم بأنّ أهل البيت ممّن يستحق السبّ والشتيمة من على منابر الصلاة».
وماذا تقول يا والدي؟
نقول: ان معركة الامام الحسين قد قضي عليها بالفعل، بعد ان قتل بطريقة مروعة ومعظم اهل بيته واصحابه، وحسب الحسابات العسكرية لم يحقق الامام شيئا من اهدافه، ذلك ان الكثرة قد غلبت الشجاعة، كما قيل. لكن استشهاده كان له اكبر الاثر في ارجاع كثر المسلمين الى صوابهم، وتوقف سب اهل البيت على منابر الصلاة. اذا لم يكن هدف الامام الحسين عسكريا بحتا، لأنه لا يتصور ان الحسين قصير النظر بهذه الطريقة، لأنه معجزة جده رسول الله ﷺ التي اطلقها مع ولادة الحسين . وكانت احد نتائج حركته المباركة توقف سب اهل البيت، من على منابر الدولة الإسلامية، بعد ان لم يستطع أحد او قل من وجد في نفسه الجرأة ليقف امام تجبر بني امية ليوقف هذا الخواء الديني.
والان المستشرق الحادي عشر، فمن هو يا والدي؟
نعم انه الفرنسي هنري ماسييه، يا بني:
وماذا يقرر ماسييه، يا والدي؟
ماسييه يقرر انه: «في نهاية الأيام العشرة من شهر محرم طلب الجيش الأموي من الحسين بن علي أن يستسلم، ولكنه لم يستجب، واستطاع رجال يزيد الأربعة آلاف أن يقضوا على الجماعة الصغيرة، وسقط الحسين مصاباً بعدة ضربات، وكان لذلك نتائج لا تحصى من الناحيتين السياسية والدينية».
وماذا تقول يا والدي؟
نقول: نحن نعرف ما هو الاستسلام الذي يريده يزيد، ونعرف ما هو الإذعان الذي يريده من الامام الحسين . فهو لن يقبل منه مجرد الاستسلام، دون الاعتراف بحكومته وبخلافته، وهذا ما ياباه الامام ، لذا قام الجيش الاموي بتصفية الامام جسديا ومن معه من الأخوان والأبناء، وكذا من تبعه من الأصحاب. فانتصر الجيش الاموي عسكريا، لكن كانت لهذا الانتصار المزعوم نتائجه الوبيلة على حكومة بني أمية سياسيا ودينيا. سياسيا حيث كان ذلك الانتصار بداية النهاية، ونهاية البداية. ودينيا، حيث ارجع ذلك الدم المسفوح بالحرام الناس الى وعيهم، فتنكروا لبني امية وانقلبوا عليهم، وعرف الناس عدم اهليتهم لتولي منصب خلافة الرسول ﷺ.
والان المستشرق الثاني عشر، أليس كذلك يا حاج؟
نعم سيدتي، انه الأمريكي كوستاف كرونيام:
وما هو خلاصة كلامه، يا حاج؟
خلاصة كلامه: «إنّ واقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصية مسلمة أخرى»..
وماذا تقول يا حاج؟
نحن نقول: أننا لا ننفي ان لشخصية الحسين تأثيرا كونيا، وانه اثر في المسلمين تأثيرا لم تبلغه اي شخصية اخرى. ولا نلوم كرونيام على قوله هذا، لأنه لم يعرف جده الرسول محمد ﷺ حق المعرفة، وكيف انه حول امة تأكل القديد وتقتل بعضها بعضا، الى امة شهيدة على بقية الخلق، لما تملك من مقومات القيادة. ولم يعلم ان الحسين هو نبوءة جده المصطفى ﷺ في إعادة الدين الحنيف الى نصابه، بعد ان حاول الأمويين تمريغ أنفه الشامخ في التراب.
اعتقد جاء دور المستشرق رقم الثالث عشر، أليس كذلك يا والدي؟
نعم يا ابنتي، وهو الإنكليزي د. ج. هوكارت.
وماذا جاء في تأكيده؟
جاء في تأكيده: «دلّت صفوف الزوار التي ترحل إلى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما تزال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الإسلامي بأسره كل هذه المظاهر استمرت لتدل على أن الموت ينفع القديسين أكثر من أيام حياتهم مجتمعة».
وماذا تقول يا والدي؟
نقول: ان استشهاد الامام الحسين لم يكن ليستفيد منه الامام نفسه، بل كان الهدف منه ارجاع المسلمين الى نصابهم وصوابهم، وارجاعهم الى دين نبيهم، وليعرفوا مركز اهل البيت بينهم. وان العواطف المؤججة التي تصاحب الزوار الذين يتقاطرون على كربلاء، والمظاهر التي استمرت حتى اليوم، لم تكن لتحيي اثر إلامام حسين ، فالامام لم يقم بحركته وثورته تلك ليذيع صيته ويبقى ذكره مدويا الى اخر الدهر، بل الامام هو امام قام ام قعد، فما قام به هو لإرجاع الناس الى روح الدين الاسلامي، وان يتمتعوا بالعدالة الاجتماعية التي حارب من أجلها جده رسول الله ﷺ.
اظن أننا بصدد الكلام عن المستشرق رقم أربعة عشر، أليس كذلك يا والدي؟؟
لا يا بني، بل نكتفي بما سردنا ونأتي على ختام أقوال المستشرقين، رغم أننا لسنا بحاجة إلى ذلك بعد ما جاء من الاقوال والتنبؤات على لسان جده المصطفى محمد ﷺ. ولكن كما قيل: «والحق ما أقرت به الاعداء». لكن نضع النقاط الرئيسة لكل ما مر بنا:
اولا: ان كلام هؤلاء المستشرقون يثبت ان واقعة كربلاء قد وقعت فعلا وبالطريقة التي نسمعها من على المنابر الحسينية او من خلال ما نقرأه في الكتب. وهذا دليل يفند انكار البعض لهذه والواقعة، او يحاول وضعها ضمن الأساطير.
ثانيا: ان ما قام به الحسين لم يكن ضربا من الجنون او ثورية زائدة، بل كانت بطولة بما تعنيه الكلمة من معنى، رغم أنف من يدعي خلاف ذلك.
ثالثا: لم يكن الامام طالبا دنيا او باحثا عن منصب دنيوي، وإلا فما الهدف من اصطحاب اهل بيته من شباب واطفال ونساء.
رابعا: لقد أثرت معركة او ثورة كربلاء، مهما تم تسميتها، في المسلمين وغيرت مجرى حياتهم.
خامسا: لقد غيرت الدماء الطاهرة التي سالت على صحراء كربلاء من مواقف المسلمين تجاه اهل البيت واحقيتهم لتولي منصب الخلافة الدنيوية، والامامة الدينية.
سادسا: اثبت هؤلاء المستشرقون ان حكومة بني امية كانت مغتصبة للخلافة، ولا يمثلون الاسلام بأي طريق.
سابعا: لقد أتى الدم الطاهر للإمام الحسين على حكم بني امية من الوجود، بل انهى ذكر بني امية من الدنيا، حيث لم نجد موقعا ولا اثرا يذكرون من خلاله.
وبهذا نكون قد انهينا هذه الحلقة من ثورة الامام الحسين الاجتماعية.
ولكن يا والدي ماذا سيكون حديثا في الجلسة القادمة؟!
الجلسة التالية ستكون من نصيبك انت يا بني ومن اختيارك، حيث أنك تحب كثرة الاطلاع وكثرة الاستفسارات، فلقد تعلمت في الغربة كيف تحضر لجلسات كهذه، أليس كذلك؟!
لقد اصبت الهدف يا والدي بدقة!!