الافتنان بالدنيا
قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ﴾ «القيامة الآية 20».
نعيم الحياة الدنيا هو مورد ابتلاء واختبار للإنسان، يرى ما يصنع فيه وكيف يتعامل مع ما يقبل عليه من زهرتها الفاتنة، فمن كان صاحب بصيرة وفطنة ونظر في عواقب الأمور كان على حذر من الوقوع في فخاخها، وأما من جعلها منتهى رغبته وغاية مطلبه كانت له كأرض الوحل كلما تحرك أو تقدم خطوة انزلق أكثر وأكثر فلا يقوى على الخلاص من قبضتها.
ولقد تناولت الآيات الكريمة إيضاح حقيقة نعيم الدنيا الزائل، فما فيها من متاع ما تلبث خضرته ونضارته أن تصفر وتذبل وتتلاشى إلى غير رجعة، فلم كل هذا التكالب والاقتتال من هذا الإنسان المغرور الغافل على انتزاع الصدارة في حيازة أكبر قدر من معاشها وزخارفها، والتي سيرحل عنها حتما؟!
من الغرائز المودعة في الإنسان هي غريزة حب النفس والبقاء وغريزة حب المال، فتتضافر هذه الغرائز إن بقيت جامحة بلا تهذيب أو توجيه وتحكيم لتنطلق في عالم الشهوات بلا حدود، وتزهر في نفسه بسبب غفلته فكرة الخلود والبقاء تحت تأثير هذه المتع وكأنه لن ينقل عنها يوما إلى اللحود.
والتحذير من الانغماس في شهوات ونعيم الدنيا الزائل لا يعني أن يحيا المرء حياة الرهبانية والبطالة والانكفاء على النفس في الدار ليكون عالة على غيره، بل الحث على الكد والعمل والإنتاجية وخوض غمار عمارة الأرض وتنمية ثرواتها من صلب تعاليم الدين الحنيف، وتحثه على معالجة أي معوقات تصادفه في مسيره العلمي والمهني والإبداعي بكل اقتدار، ولن يجد في عالم البناء والازدهار خيرا من استثمار المال وتنميته، وجعله وسيلة لإسعاد أسرته ومجتمعه.
وإنما الجانب المذموم منها هو أن يكون عبدا للمال وأسيرا لهوى الدنيا، فينسى آخرته وتنصرف همته عن طاعة ربه وفعل الخير، بل وتتطاول تطلعاته لتكسر حاجز المحركات وقبائح الأفعال؛ أملا في تحصيل مصالحه ومنافعه وإن أوقع الضرر بالآخرين فلا يهمه إلا إرضاء نفسه الجشعة.
حبها يكون مهلكا للإنسان حيث ينمي فيه الأماني والآمال البعيدة، ويحرف حركته عن الهدف الأسمى لوجوده وهو عبادة الله تعالى وتحقيق كماله الجوهري بالتحلي بالفضائل والقيم الأخلاقية، ويصرف همته عن الاستعداد والتأهب لعالم الحساب وعرض الأعمال عندما تنصب الموازين، فقلبه المغمور بحب المتع وتفضيلها على أي شيء وتصبح همه الأكبر وشغله الشاغل، يميث نورانية الإيمان ويطفئ من قلبه جذوة الخشية من الله والورع عن محارمه، فلن يتوقف من مليء قلبه بالشهوات عند حدود الله، بل سيتجاوز الخطوط الحمراء ويطأ بقدمه أرض المحرمات؛ لأنه حينها يكون بلا وعي أو رشد ما كان واقعا تحت تأثير سكر النزوات، ولن تكون له همة لإنفاق في سبيل الله بل يجده مغرما وخسارة وتضييعا للثروة التي يقضي عمره في جمعها!
حقيقة الدنيا هي أنها مضمار العمل وساحة زراعية كبيرة يستنبت فيها العباد من العمل ما يحصدون ثماره يوم القيامة، وهذا لا يتنافى أبدا مع بناء الأسرة وتنمية المال والتخطيط المستقبلي، إذ عمارة الأرض والعلاقات الناجحة من صلب عبادات المرء، فكل كلمة أو خطوة يممنه أن يجعلها حسنة يثاب عليها، عندما يقصد بها وجه الله تعالى حتى نومه وأكله، فيقصد بها التقوي على فعل الخير والاقتدار في محراب العبادة، وعينه لا يرفعها عن بناء مستقبله الأخروي وبناء قصره هناك، فلا يجد في الدنيا أكثر من ممر أو منزل يحل به ليرحل عنه، وهنا يكون قد نجح في الامتحان والابتلاء الإلهي فلم ينخدع بزخارف الدنيا وزهرتها، ولم تضعف همته في طريق الحق والثبات والتمسك بالهدى.