لأننا نحبهم ونحبكم..!
منذ زمن والبعض يحاول أن يعالج بعض الأمور الحساسة بطريقة تُرضي جميع الأطراف.. فما يجمعنا أكثر بكثير مما يُفرقنا.. وهنا تكمن جمالية هذا الموضوع الحساس.. لأن طرفيه من نحب.. الأول الروح.. والثاني الجسد وذويه.. الطرف الأول يفتح أبواب الآخرة والثاني يفتح أبواب الدنيا.. والعلاقة ما بينهما علاقة وطيدة.. حتى عندما تخرج الروح.. وتعود الأمانة لخالقها.. يبقى هذا الجسد كاليتيم الذي يحاول كل أهله وذويه الإحاطة به ومواسته في مصابه الأليم ومصابهم الأليم بفقدهم الروح التي أحبوا.. لأنهم يرون فيه الروح من جهة.. ومن جهة أخرى هم في الدنيا والجسد في الدنيا.. لكن التي تنظر لهم ولجسدها المسجى في الكفن هي الروح في عالمها الذي لا يراه الأحياء..
الأحياء لا يرون إلا الجسد وتغيب عنهم الروح فلا يُدركوها.. ولا يستوعبوا ما يجري عليها.. ومن نعمة الله علينا أن وصلتنا العديد من الروايات عن نبي الرحمة ﷺ وعن وأهل بيته الأطهار تُعرف الأحياء بعالم الأرواح.. لتُجيب على تساؤلاتهم من قبيل كيف تشعر هذه الروح..؟ وكيف يكون هذا الجسد وهو في قبره..؟ وغيرها..
ومن هنا نبدأ معك أيها القارئ هذه الرحلة.. لننقل شعور عالم الأرواح لعالم الأحياء.. ونتأمل في سلوك وشعور عالم الأحياء الذين يرون الأمور بشكل دنيوي لا اُخروي.. الأمر الذي يترتب عليه تغيير بعض السلوكيات والممارسات التي تبدو في ظاهرها دلائل وعلامات للمحبة والاحترام والتقدير والوجاهة.. في حين أن باطنها يؤذي لا شعورياً أرواح عزيزة وغالية.. ولطالما أحببناها وأرخصنا لأجلها الغالي والثمين.. أفنبخل عليها بما يُسعدها وهي في عالمها الآخر تنتظر رحمة الله.. وجُل طموحها دعوة خالصة بالرحمة والمغفرة.. وعمل صالح يصل لها من عالم الأحياء..
هذه الرحلة ستكون في مقبرة الديرة بين الأرواح المرفرفة.. والأجساد التي تنام تحت التراب.. الكل مدعو.. لأننا نحبكم.. ولأن موتاكم هم موتانا وأهلنا.. وعندما كانوا على قيد الحياة كان دعاءهم يشمل الجميع دون استثناء.. من يعرفهم ومن لا يعرفهم.. فكم من دعوة جاءت لآبائنا بأن يرزقهم الله بالذرية الصالحة.. نسأل الله أن نكون وإياكم من الذرية الصالحة..
نبدأ من هنا.. من قبر الحاج مكي الذي مضى على وفاته تقريباً أكثر من 15 سنة.. ولا قبره يُزار من أهله وذويه.. في كل زيارة يُحضرون معهم الريحان وماء الورد الأصلي.. وما أن يصلوا القبر حتى يفرشوا الريحان على امتداد القبر.. ويسكبون ماء الورد بكثرة على القبر حتى تفوح منه رائحة الورد.. يُسلمون عليه ويقرأون له الفاتحة ويهدونه ثوابها.. عندما نسألهم عن سبب اختيارهم الريحان وماء الورد يقولون:
اكراماً لروحه.. كان يحب الريحان.. وكان كريم نفس.. أقل شيء في حقه هذا.. ماء ورد أصلي وريحان يُفرش لأجله.. كان يحب الريحان ويزرعه..
هل تحبون أن تعلموا ماذا تقول روح الحاج مكي وبماذا تشعر..؟
لا خلا ولا عدم منكم يا زواري.. رحم الله والديكم.. ماي ورد وريحان لي أنا..؟!! عالم الآخرة غير عالم الدنيا.. أشياء كثيرة نحبها في الدنيا.. لكن في عالم الأرواح ما عُدت كما كنت أراها في الدنيا.. هذا الريحان الحين أخضر لكن بعد كم يوم يذبل ويكون وليمة دسمة للحشرات والطفيليات من نمل ودود وزواحف وغيرها التي تأتي من كل حدب وصوب..!
أما ماء الورد الغالي فحبذا لو استبدلتموه بماء القراح العادي.. ويكفي ترطيب القبر قليلاً ولا داعي لصب الماء واغراق القبر علي لأن الجسد يتأذى.. وأما الروائح التي نستنشقها هي روائح أعمالنا.. ما صلح فاح عبيره.. وما فسد والعياذ بالله بانت رائحته النتنة.. ماء الورد نعمة.. لا تهدروها عليَّ.. قدروا النعمة وعيشوها واحمدوا الله سبحانه وتعالى عليها لأبعد مدى.. واستنشقوا الريحان وزرعوه في أرضكم لأنه يعطي الحياة.. الله يحفظكم يا زواري..
الأحياء لا يرون الأمور كما تراها أرواح الأموات.. وما هو في ظاهره جميل وأخضر وحياة.. لا يكون كذلك في عالم الأرواح.. ويكون فيه أذية دونما قصد للميت الذي لا يريد إلا رحمة الله ودعاء الأحياء.. وزيارتهم ولمستهم الحنونة على قبره.. وسورة الفاتحة التي تؤنسه في وحشته..
نواصل جولتنا.. هذا قبر السيدة طوعة.. هذي أم الكل.. قلبها وسع ويسع الجميع.. هذه السيدة توفيت قبل 10 سنة.. ولا يزال اسمها حاضر في أذهان الكل من الصغار والكبار.. ومن محبتهم لها نقشوا شاهد قبرها على حجر مرمر كبير ومميز.. وكتبوا عليه آية وكم بيت حُسيني واسمها وغيرها.. والسيد ماجد حفظه الله أراد إكرامها وإكرام ذويها عرفاناً منه بقدرها ومكانتها.. فما كان منه إلا أن رفع القبر.. وسوره بالمرمر.. وضع حجر رخام عريض على سطح القبر.. وعندما نسأل عن رأي أهلها وذويها بعدما تم ترميم قبرها وإعطاء هذه السيدة قدرها.. يقولون:
تكريمها وحفاوة أهل الديرة محط تقدير وامتنان.. نحن سُعداء بأن يتم رفع قبرها وتسويره بالمرمر ووضع رخامة فوق القبر.. حتى لو وضعنا ورد ورطبنا القبر بالماء لا يكون سطح القبر مرتع للحشرات.. ونُحافظ على نظافة القبر.. الآن القبر تحول مزار صغير لهذه الوالدة الكريمة.. احترام الميت واجب.. وهذا أقل تقدير لكل من يخدم الديرة وأهلها..!
هل تريدون أن تعرفوا ماذا تقول روح السيدة طوعة رحمة الله عليها:
أعرف مكانتي في قلوبكم.. هذي المكانة أغلى من الذهب والفضة.. لكن الوضع عندنا كأموات غير عندكم كأحياء.. المظهر جميل لعيون الأحياء وليس لأرواحنا نحن الأموات.. قبري الآن يشعر فيه جسدي بشيء ثقيل يُطبق عليه من الرخام الثقيل الموضوع على سطحه.. الماء الذي يُرش لا يُلامس تراب القبر فلا يرطبه.. والذي يكسرني ويُبكيني أن أرى قبري يتحول لمزار.. وقبر سيدتي ومولاتي أم البنين حتى شاهد من حجر مكتوب عليه اسمها لا يوجد..!!! أنا أتحسر كلما ذهبت روحي لتزور قبر أم البنين.. بأي وجه ألاقيها..؟؟!! تكفيني زيارتكم لقبري ودعاءكم لي كل يوم إثنين وخميس.. يكفيني تحجيل قبري بالحجر الأحمر.. ورفعه بمقدار ما استحبه الشرع وتسطيحه.. ووضع شاهد بسيط دونما تكلف.. الرخام الغالي والمرمر تصدقوا به عن روحي.. رحمكم الله في الدنيا والآخرة.
أرأيتم.. الرخام والمرمر لا يعكس التقدير لروح الميت.. وما لفت نظرنا له السيدة طوعة جدير بالتأمل.. فعندما نتأمل في قبور أهل البيت مِن مَن تعرضوا للمحاربة ولا يزالون.. نجدهم يعالجون لنا مشكلة التضييق الذي يُمارس علينا بسبب سيرنا على نهجهم.. قبر السيدة أم البنين وقبور الأئمة في مقبرة البقيع خير مُعلم لآلية التعامل في ضوء التضييق المُمَنهج على كافة الأصعدة.. ومنها المقابر..
مكانة الأئمة مكانة عظيمة عن الله سبحانه وتعالى.. لم يكن الشاهد والبناء على القبر دليل على عظمتهم.. مكانتهم ليست أمر مادي يسهل لمسه أو حتى كسره.. على العكس.. مكانة الأئمة مكانة روحية.. وقبورهم رغم بساطتها إلا أنها تشع نور وتهوي لها القلوب والأفئدة.. وتسكب العين معينها لأجلهم.. أفلا نقتدي بهم ونعالج ما نمر به بروية وحِلم.. ونظرة أخرى لقبور من نحب..؟
موتاكم موتانا بل أهلنا وأحبابنا.. مقابرنا عامرة إن شاء الله ونحن نزور أهل ”لا إله إلا الله“ وندعو لهم بالرحمة والمغفرة.. ونسأل الله عز وجل أن يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر..
نحن في نعمة عظيمة نُحسد عليها.. ألا وهي أن أرض المقبرة وقف أو أرض مجانية بعكس بعض الدول التي يضطر فيها ذوي الموتى لشراء أرض توارى أجساد موتاهم.. فماذا يفعل الفقير العاجز الذي لا يستطيع شراء قبر يدفن فيه ذويه وأحبابه..؟!!
الموت مكلف مادياً في بعض الدول.. ونحن ولله الحمد في نعمة.. أفهل نحجز الأرض التي دفن فيها أحبابنا وقد كانت قبل ذا مكان لأحباب آخرين دُفِنوا فيها..؟! في حين أن الموت في درسه الأول لنا يقول:
أنتم أمانة استودعها الله لدى أحبابكم.. ويوماً تعود الأمانة لصاحبها..
قليل من التأمل.. قليل من التفكر..:
إذا كانت أنفسنا أمانة.. وعندما نموت تعود الأمانة لخالقها..
إذا كان كل ما نملكه لا نأخذه ويذهب للورثة..
أفنحجز الأرض التي تحوي أجساد من نحبهم.. وهم ذهبوا ونحن في يوم ما سنذهب..؟!!
حبنا لموتانا لن يُخلدهم.. أرواح موتانا ترتاح عندما تتخفف من كل ما يُثقل على كاهلها.. ابتداءً بالإرث مروراً بالقبر وانتهاءً بالصدقة والدعاء.
في الختام أود شكر كل ما ساعدني بشكل مباشر أو غير مباشر - بدون ذكر أسماء - على كتابة هذا الموضوع بهذا الاسلوب..
وتحت عنوان «لأننا نحبهم ونحبكم..!!»
- رفع القبر عن الأرض بمقدار 4 أصابع مفروجة.. لو زاد الارتفاع عن هذا الحد تحدث الكراهية
- تسطيح القبر.. أما تسنيم القبر بمعنى جعله غائر أو هابط غير مسطح أمر غير محبذ لأنه يكون مجال لتجمع الماء فيه وهو مكروه..
- تحجيل القبر بالحجر الأحمر.. أما البنيان وغيره من تعتبر من المكروهات.. لأنها تُعتبر ثقل على الميت..
- ترطيب القبر 40 يوم أو 40 شهر.. وزيارة المؤمنين لمدة 40 سنة..
- ترطيب القبر بماء القراح.. أما وضع الورد والريحان مكروه لأن فيه إهانة للميت إذ يجمع ديدان وحشرات فوق سطح القبر..
ملاحظة: الأسماء المذكورة في الموضوع أسماء وهمية من نسج الخيال.. فإذا ما توافقت مع أسماء حقيقية.. نعتذر منكم.