الفكر لا يمكن محاصرته
في هذا المقال لست بصدد تقديم قراءة نقدية لأفكار وآراء المرحوم العلامة السيد محمد حسين فضل الله، بل بصدد القيام بمقاربة فكرة محاصرة الفكر، وفكر فضل الله أحد تمظهرات - بحسب اعتقاد البعض - من ينبغي أن تقع عليه المحاصرة والخناق.
في إحدى ليالي هذا الاسبوع اجتمعنا مجموعة من الأصدقاء، فتجاذبنا أطراف الحديث، وكان محور حديثنا يدور حول حدث لافت للأوساط الثقافية والفكرية، ألا وهو منع القائمين على معرض الكتاب بالنجف الأشرف دور نشر متخصصة بنشر وبيع كتب السيد فضل الله من المشاركة في هذه التظاهرة الثقافية.
وقد بدأ النقاش في جو هادئ، بيد أن هذا الهدوء لم يستمر طويلاً، إذ ارتفعت وتيرته وأصبح عاصفا، وبدت معالم انقسامنا إلى فريقين واضحة بارزة: فريق يؤيد ما قام به القائمون على هذا المعرض من إجراء، وفريق آخر يرى عكس ذلك. ولم يكن التأييد أو الرفض - في نظري - إلا انعكاسا لشحونات نفسية سلبية أو إيجابية تحملها نفوسنا اتجاه هذا الرجل. وبصياغة آخرى لم تكن مقاربتنا للحدث مستندة على أسس موضوعية ومنهجية نقدية علمية، بل مقاربة قائمة على إشباع رغبة عاطفية جامحة اتجاه السيد فضل الله سواء كانت سلبية أو إيجابية.
وفي خضم هذا النقاش المحتدم انبرى أحد الأصدقاء مستعينا بصوته الجهوري، لتوجيه دفة الحوار طالبا من الجميع إيقاف هذا الجدال والحوار غير المثمر والعمل على تحكيم لغة العقل وبناء حوار مرتكز على سؤال محوري، يكون منطلقا لمقاربة الموضوع وبوصلة توجه مسار الحوار والنقاش.
وهنا نسأل: كيف نحكم لغة العقل في مقاربة مثل هذا الموضوع؟
لتحكيم لغة العقل لا بد من مقاربة الموضوع بروح تتصف بالموضوعية والتجرد من العاطفة الجامحة التي تجنح بنا نحو التطرف والتعصب المقيت. فمتى ما اتصفنا بمثل هذه الصفات تحررت عقولنا من أسر المسبقات الذهنية التي لها عميق الأثر في إصدار الأحكام. وعاد حوارنا مجددا من خلال التساؤل المحوري - الذي سيكون منصة انطلاق النقاش - وهو: هل بالإمكان أن نحاصر فكرًا ما ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين؟
وبدأت إجابات الأصدقاء على هذا التساؤل تتوالى، إلى أن أتى الدور علي، فاستعنت في مقاربتي لهذا التساؤل بسؤال وجهته لأحد الأصدقاء - لمعرفتي المسبقة عن موقفه السلبي المتطرف اتجاه السيد فضل الله وآفكاره - وكان السؤال ذا خيارات متعددة، وهو:
- في بيتنا أسد مفترس.
- في بيتنا لص مسلح.
- في بيتنا مخدرات قاتلة
- في بيتنا كتب السيد فضل الله.
وكانت إجابته تتسم بالشفافية والصراحة كشفافية روحه، إذ قال: لو سألتني هذا السؤال قبل فترة زمنية ليست بقصيرة لأجبتك: بأن الخيار الأخطر من هذه الخيارات هو الخيار الرابع «في بيتنا كتب السيد فضل الله». أما الآن فقد تغير الحال.
فسألته: كيف تغير الحال؟ فقال: أنا موقفي من هذا الرجل كان سلبيا للغاية - وأنت تعرف ذلك - حيث كانت تغمرني حساسية مفرطة اتجاه سماع اسمه فضلًا عن اقتناء كتبه ومؤلفاته ومناقشة آرائه.
هذه الحساسية المفرطة جعلتني اتخذ قرارا صارما يقضي بمنع اقتناء كتبه وأمرت أفراد أسرتي بتطبيقه وتنفيذه دون هوادة.
وكنت أظن بأن هذا القرار سيعمل على تشكيل حماية لأفراد أسرتي من نفوذ أفكار وآراء السيد فضل الله من التغلغل في أعماقهم.
بيد أني اكتشفت لاحقا بأني إنسان واهم لأني غفلت عن أمر في غاية الأهمية ألا وهو أن النفس البشرية بطبيعتها تميل وتنجذب إلى كل ممنوع «فكل ممنوع مرغوب».
واستمر صديقنا في الحديث، ليصل إلى قصته الطريفة مع ابنه، التي كانت وراء تغيير موقفه السلبي والنأي عن اتخاذ مثل هذه القرارات، يقول في هذه الصدد:
في يوم من الأيام أتناقش مع ابني في مسألة ثبوت دخول الشهر بالحسابات الفلكية، وإذا به يطرح رأي فضل الله ويدافع عنه بكل حماس.
فسألت ابني: كيف اطلعت على رأي السيد فضل الله، وأنا طلبت منك عدم اقتناء كتبه؟ هل عصيت أمري وخالفت كلامي؟
فقال لي: لم أعص أمرك، ولم أخالف كلامك، ولم أفعل ما يغضبك، بل نفذت أوامرك حرفيا، فلم أجلب أي كتاب لفضل الله إلى المنزل، ولكن كنت اطلع على آرائه وأفكاره من خلال الإنترنت.
ومن حينها شعرت بأن أمر محاصرة الفكر ليس بالإمكان في ظل تقنية الاتصالات المتطورة.
وبعد أن انتهى من حديثه عقبت عليه بتجربة قد مررت بها في صيف 1985 م.
بعد انتهائي من السنة الدراسية الأولى الجامعية، قررت الذهاب إلى سوريا. وقبل سفري بأيام معدودة استمعت إلى محاضرة لأحد الخطباء عبر شريط الكاسيت، وكان ضمن ما قاله: «آيها الشباب: حصنوا أنفسكم من أفكار علي شريعتي، عدو الدين والعلماء، فلا تقتنوا كتبه».
وكنت في تلك الفترة لم أعرف شيئا عن شريعتي وأفكاره ولم أطلع على مؤلفاته وكتبه. وأتذكر ما أن وصلت إلى دمشق قصدت شارع الحجاز، حيث يعج بباعة الكتب على الأرصفة والمكتبات ودور النشر باحثا عن كتب شريعتي. فتحذير هذا الخطيب كان بمثابة محرك ومحفز لي على الاطلاع على كتب شريعتي وأفكاره وآرائه.
في خاتمة المطاف أقول:
لم يعد الكتاب هو الوعاء الوحيد لاقتناء وتحصيل المعرفة، فهناك أوعية وقنوات عدة في ظل التقدم التكنولوجي. ولذا فكرة محاصرة وخنق فكر ما باتت وهم لا يمكن تحقيقها. فالفكر الآن يتحرك بحركة الإنسان، فحركة الفكر وحركة الإنسان صنوان متلازمان، فمادام الإنسان يتحرك فالفكر يتحرك.
وعلى هذا القيام بمحاصرة فكر ما لا يجدي نفعا في الوقت الراهن، بل الأجدى والأنفع هو مقاومة الفكر بالفكر ومقارعة الحجة بالحجة لنحقق ثراء فكريا وأفقا ثقافيا.