نفايات الضمير.. والأسمنت
في هذا الجزء الصغير من العالم أخطأ الناس الظن، وضلوا السبيل في - شراء منازل جاهزة - سرعان ما تبين لهم أنها ”نفايات من الأسمنت“ وأنها بقايا من كل شيء، الورق، والمطاط والألمنيوم والزجاج، وأن مقدار الصالح فيها هي فقط تلك المساحة الضيقة والصغيرة من الأرض المقامة عليها! هي منازل كأنها من ”ملح يابس“.. قطرات ضعيفة من الماء تهدمها، وتهدم الحلم الأخير لضحاياها، وقد باعتها ضمائر الأسمنت وكأن بطائنها من ذهب وفضة.
في مقال الأستاذ عبد الحميد العمري في جريدة ”الاقتصادية“ أشار بصدق إلى ظاهرة - التراب السلعة - المحتكرة، وإلى شيء غريب وفريد أن يكون الوطن بهذا القدر الهائل من الاتساع، وأن تكون أراضي مواطنيه بهذا القدر الضئيل الصغير من المساحة، وبهذا القدر المجنون من القيمة..! إنها تجارة التراب بكل ما فيها من جشع واحتكار وقسوة وانعدام الرحمة بأحد من المسلمين!
هذه الأنانية البغيضة، وذاك الجشع الأبرص، أنجبا - ضمير الأسمنت - الضمير الذي يولد بلا حياة، ويولد قاتلا لفرص الحياة لكثيرين حوله، يولد مانعا للحياة في كل مكان يحتله ويكون فيه وهم ”تجار المباني المغشوشة الجاهزة“!
إن الضحايا الذين خسروا كل شيء، حاضرهم ومستقبلهم، ومدخراتهم، ظهر بعضهم يخاطب - ضمائر الأسمنت - وهم يصورون الجدران التي تصدعت، وتلك التي تباعدت عن بعضها، وأبواب القش المحشوة بالورق، والملابس المستعملة. والقطن الفاسد!
لا نستطيع أن نطلب من - رجل - ضميره من الأسمنت أن يعطينا أكثر مما يقدر ويستطيع! ومن طبيعة الأسمنت أنه لا يشعر بأحد، ولا يحس بمن حوله، ولا يبصر أحدا، ولا يفرق بين إنسان أو حيوان، ولا قرابة له مع أحد.. كما أنه لا ينتمي إلى غير نفسه!
حتى إن الأرض تتكبده ولا تستطيعه ولا تقدر على هضمه لمئات السنين! وهذا سبب تسميتي لتجار المساكن المغشوشة بضمائر الأسمنت.. لوحدة السمات، والصفات. والطبيعة، ونتيجة الضرر والفساد. وإن تفاضل الأسمنت عنهم، بأنه قابل للنفع، والخير. إن فضيلة كل مجتمع تحدد بمقدار الخير فيه، وإن وعي كل مجتمع يقدر بقدرته على حماية نفسه، من الفاسدين فيه، والظالمين منه.. نحن ضحاياهم من ظلمنا أنفسنا، أولا.. لأننا دون مبرر ما زلنا نرحل كل عام ”الكود السعودي للبناء“ للعام الذي يليه، وللسنة التي تأتي بعدها، وكأن كل هذه الأرواح الضعيفة التي ستتألم حتى ترتفع إلى الله بمظلوميتها.. وبما كابدته طويلا حتى فارقت الدنيا.. وكل هذه الجبال من النفايات الأسمنتية التي حتما ستتراكم بعد أمد قصير، وكل الثروات الهائلة التي انتزعت من الناس بالغش، والتدليس، والخداع.. هذا كله ليس كافيا، لنجعل هذا القرار ”ضروريا“ و”واجبا“ فهو الواجب الذي يحمي خلفه عشرات المليارات ستذهب كزبد البحر في كثرة جدران وألوان تستوعب العين وتزول بإصبع رقيق من أصابع الريح.. تذهب على جفوة، ولا تمكث في الأرض، لأنها مزيفة وكاذبة وليس فيها نصيب من الصدق في المواصفات وشروط البقاء. وحتى الآن.. لم نصدر ”إلزاما بالضمان“ لعشر سنوات لجميع المباني المعروضة للبيع، وهو ضمان يفترض أنه طبيعي جدا بحسب الحد المتوسط من المواصفات. إذ لا قيمة لمبنى غير صالح حتى لهذه المدة القصيرة جدا من الزمن، فهو يمثل استنزافا حقيقيا للموارد، وترحيلا لأزمة الإسكان بشكل دائم، وصناعة لتلوث أسمنتي لا خلاص منه.
والرابح الوحيد من هذا التأخير غير المبرر هو حملة ضمائر الأسمنت.. تجار المباني المغشوشة! لا متعهم الله بما كسبت أيديهم من ذاك المال الحرام.. المكتسب بالخداع والغش والتزييف.