إماتة الحقيقة بالابتذال الإعلامي
ليس الابتذال وحده ما جعل الناس تفقد ثقتها في وسائل الاعلام. فقد صارت بؤرة للنزاعات، أو التكسّب التجاري، أو الدعاية السياسية. في الوقت الذي تخلت فيه عن تقديم أي خدمة إخبارية حيادية، أو مادة ترفيهية ذات معنى. إذ صار بمقدور أي رجل أعمال أن يمتلك وسيلة إعلامية مرئية أو مسموعة أو مقروءة وتحويلها إلى شركة تجارية هدفها الربح في المقام الأول، أو استخدامها كذراع دعائية لتعزيز وتمديد مواقع قوته. تمامًا كما انتشرت الفضائيات الطائفية التي تخدم استراتيجيات قوى آخر ما تفكر فيه هو صفاء الرسالة الإعلامية.
وهذا الانحدار الذي فتّت مفهوم وأثر السلطة الرابعة، لا يقتصر على الإعلام العربي وحسب، بل هو مآل لمجمل الأداء الإعلامي في العالم. حيث تم استلحاق الإعلام بما تخطط له وترتئيه مفاعيل السلطة بمختلف تمثيلاتها السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية. ولذلك صرنا نطالع بشكل يومي استحواذ شركات كبرى على وسائل إعلام ذات صيت وتاريخ، وتحويلها إلى منصات للثرثرة المجانية والاستعراضات التهريجية، بدعوى اللحاق بمتطلبات اللحظة المعاصرة التي لا تحتمل الجدية ولا الصدقية بمنظور المتحمسين لتلك الصورة الرديئة من الإعلام.
كل ما يهم الإعلامي اليوم إرضاء المؤسسة التي يعمل بها. وإبداء الرغبة الصريحة والفائضة في تنفيذ استراتيجياتها. حتى وإن كانت تلك الرسائل التي يتبناها ويبثها بأدائية احترافية عالية ضد الحقيقة، ومنافية للأخلاق، ومدمرة للقيم، ومتعارضة مع كل ما هو إنساني. لأن وسائل الإعلام صناعة بالدرجة الأولى، لا تختلف عن كل الصناعات. والإعلامي في هذا المقام هو مجرد موظف في شركة تجيد عرض الزيف والبهرجة، ولا يهمها إنتاج الحقائق والأفكار والقيم والجماليات، بقدر ما هي معنية بزيادة أرباحها، ومراكمة رأسمالها، وتثبيت مواقعها في عالم المال والأعمال وصراع العصبيات.
يقال إن الحقيقة هي الضحية الأولى للحروب. وهذه حقيقة يمكن تلمّسها في كل الصراعات والمجابهات. وما يحدث اليوم على الصعيد الإعلامي العالمي هو شكل من أشكال الحرب ولكن بأيد نظيفة. صراع بين شركات وعقائد وطوائف وأحلاف تستخدم الإعلام كسلاح لتدمير الخصوم وتشويههم، واستغفال الجمهور لتمرير مآربهم. وهنا لا تموت الحقيقة فقط بل يموت الفن والأدب والخير والحق والعدالة وكل ما يؤنسن الإنسان. حيث يتم الإجهاز على المعنى الذي يشكل الحبل السري بين الإنسان والوجود. وهذا هو بالفعل ما تؤديه وسائل الإعلام التي تسلب الإنسان آدميته وتنفيه عن نفسه وتدفعه إلى الهوامش.
قد يكون انعدام التأهيل الإعلامي سببًا لذلك التردي، إلا أن السبب الأهم هو وجوده على حافة خطر الاستغناء عنه في أي لحظة بمقتضى الأزمات المالية التي تعانيها معظم الوسائل الإعلامية. وبموجب التحولات الاتصالية الجارفة التي تحتّم تغيير مجمل الأدوات القديمة، بمن في ذلك الإعلاميون. ولذلك يبدو مضطرًا للانسجام مع حفلة التفاهة الكبرى التي تروج لها المؤسسة، أو الالتحاق بمعركة إثارة الغرائز الطائفية التي تحمل لواءها القناة تلك وهكذا. حيث تنهار المبادئ على مذبح المال والنعرات، فيما يصعد نجم الإعلامي بصفته أحد عناوين ذلك الابتذال.
المادة الإعلامية الرصينة كانت ومازالت داخل علاقة مضطربة مع الإعلان التجاري والتبشير الأيدلوجي. وغالبًا ما تزحف تلك الضرورات اللازمة لتمويل الوسيلة الإعلامية على الأخبار والمقالات والصور والريبورتاجات. وكانت إلى وقت قريب مقبولة، إلا أنها باتت مؤخرًا عبئًا على الرسالة الإعلامية. لأن القارئ أو المشاهد قد يرغب في التعرف على منتج من خلال إعلان تجاري، ولكن لا يمكن إقناع القراء والمشاهدين بمتابعة القناة الفضائية أو قراءة المطبوعة وهي لا تقدم سوى الإعلانات والأغاني التافهة والفيديوهات النيئة. كما لا يمكن لأي قارئ أو مشاهد أن يعرّض حواسه لنوبات من السعار. وهذا هو المأزق الذي تورطت فيه معظم الصحف والفضائيات.
إن تحويل الوسائل الإعلامية إلى شركات تجارية هاجسها الربح يهدد مستقبلها مع المتلقي. كما أن انتماء الإعلامي إلى وسيلة إعلامية مكرّسة للمبارزة الطائفية والعنصرية لا تجعل منه إعلاميًا، بل تحوله إلى أداة بيد المتطرفين والحمقى. وفي مفترق ما سيتم الاستغناء عنه لاستجلاب إعلامي أكثر تشددًا منه. لأن هذه الوسائل التي باتت ترسم معالم الترفيه والتفكير والميول والممارسات في مستنقع الابتذال ستكون هي الأخرى عرضة للتفكك والانهيار في ظل الفردانية الإعلامية، المتأتية من التكنولوجيا التواصلية الجديدة والمحمولة على لحظة حرية قصوى. وهذه بدورها ستعمم فكرة الابتذال والاستلحاق بالنظر إلى غياب الرقابة. لأن الأجيال الشابّة بمقدورها إنتاج مادة إعلامية تماثل ما تُنتجه تلك الوسائل المتّلبسة بلبوس الإعلام.