للأفكار تاريخ صلاحية
الإنسان كائن ناقص، والكمال من الناقص ممتنع، ومتعذر.. وإن كل واحد منا ينبغي أن يرأف بنفسه، ويرحم غيره، حين يظهر له ما يعده جهلا شنيعا، أو عيبا مشينا، أو نقصا مخجلا.. لأن الضعف في الناس متقاسم، ولأن العلم كالعقل فيهم موزع.. وأن حصة كل إنسان من العلم والجهل مختلفة ومتعددة.. وأن الموازين تختلف.. وأن المكيال يختلف في الزمان والمكان.. فرفقا بالجهل إن تبدى.. ورفقا بالساقط إن تردى.. ورفقا بالعيب إن ظهر.. فإننا جميعا في ضعف ونقص وجهل.. به ابتدأ العمر. وإليه نعود كي لا نعلم بعد علم شيئا..! فتمام كمالنا نقص.. لولا الغرور.
لكل زمان عقله.. ولكل وعي مراحله، فالمعرفة كائن لا يتوقف عن النمو، ولا يتوقف عن التحول والتطور، كثير من اليقين الذي لا راد له في مسلماته.. ودرجات يقينه.. في زمان مضى، بات - جهلا - مخجلا لمعتنقيه، في زمان جاء بعده.. فأبصر الإنسان بعين ما كان متواريا، واقترب عما كان القرب إليه محالا، فأحاط.. وكل محيط مدرك، أكثر من المحدود الضيق!
من انبساط الأرض وثباتها، ودورانها، إلى جزر الواق واق.. التي تنبت أشجارها - نساء جميلات - إذا قطفت الفتاة من غصن من أغصانها قالت واق واق! وأساطير كثيرة عن البحار وفوقها، وعن الصين والهند وغريب ما فيها، والكثير من - كلام البسطاء - وأساطير متخيلة.. آمن بها البعض وأنها من العجائب.
ليس بوسعنا اليوم أن نقنع طفلا في المرحلة الابتدائية بها! وليس بوسعنا أن نجعله يؤمن ببعضها! ليس تصغيرا لمن آمن بها، ولا تقليلا لشأنهم، ولا مساسا بمنزلتهم.. ولكنه فعل الزمان بأهله، وفعل الوعي بتطوره.. وتفاوت منازله في سيره، المعرفة تتطهر بذاتها، من ذاتها، ويمور بعضها في بعض. وتغالب ضعفها بقوتها.. فحتى معايير الجمال تختلف، والذوق يتغير..
أسوق هذا لقناعة لاعتقادي أن بعض الموتى بأنفسهم لو أتيح لهم سبيل إلى الحياة، لبدلوا كثيرا من يقينهم المستقر السابق، ولتغير الفهم الكلي الذي كون رؤيتهم وحكمهم الأخير على كثير من قضايا الإنسان والمجتمع والحياة!
لذا ثمة ضرورة في تأصيل - الوعي - أن نجعل - تاريخ الاستنباط - جزءا لا يتجزأ منه، وتاريخ الفقه، جزءا مكملا لفهم موضوعاته..! لأن الحكم يتبع الموضوع، تبعية الدلالة للمصاديق التي تتبدل وتتغير! ثم إن المسافة الفاصلة بين السلوك الجمعي والفهم المنبسط للعامة، والشائع في مجتمع ما هو البيئة التي تكون الأفكار، وتنتجها، ما يجعل الكثير منها بيئة منتجة للرؤى والشخصية العامة وفي الأخير للأفكار والتوجهات. ليس بأحد في منأى من هذا النقص، وليس من أحد يستطيع أن يسلم بعد حين من الزمان من هذا العيب، ضعف عقل الزمان، وحدود الإدراك فيه.. فإني قد راقبت، وأمعنت النظر في كثير من كتب الفلسفة، والتاريخ، والتفسير، والفقه، وانتهيت إلى الاقتناع بأن كل عمل بشري له تاريخ صلاحية ينتهي عنده وأن الأفكار يجب أن تخضع لإعادة التكوين بصورة مستمرة، وأن الإنسان هو بنفسه يخجل من بعض أفكاره، وما خطه بقلمه وسوده بمحبرته