آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 11:54 ص

شوف «حسابي»

محمد العباس * صحيفة اليوم

ما أن تتحدث إلى الميديائيين المبهورين بالوسائط في أي لقاء ودي حتى يحيلك إلى حساب من حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، وبمنتهى الاعتداد بالنفس يخاطبك: شوف حسابي في تويتر أو الفيس بوك أو الانستغرام أو السناب شات.

أما مفردة «حسابي» هذه فتختزن من الدلالات ما يكفي لقراءة اللحظة وتداعياتها، فهي لا تحيل إلى محل لالتقاط معلومة عامة، بل تؤكد على الهوية الشخصية، والمزاج الفردي، والنزعة الذاتية، خصوصاً أنها تُقال بضمير وصوت واعتداد الأنا المتكلم. وكأن من يوجهك لمطالعة أحد حساباته يقودك للتماس مع وعيه ورغباته وخيباته ونزقه وحماقاته وتطلعاته وأهوائه وعلاقاته وعواطفه وحميمياته... وهكذا، وإن كان هذا المنحى لا يقتصر على الشباب، بل يشمل فئات تحاول مجاراتهم والتأثير عليهم، لذلك تبدو حسابات الشباب مختلفة عن تلك الحسابات الوعظية المفتعلة التي لا تشبه مضامينها ما يؤديه الشباب مع بعضهم البعض.

هذه الحسابات هي الابن الطبيعي للمدونات، وتنتمي في مجملها إلى ثقافة الانترنت. فمن يمتلك مدونته الخاصة يمتلك رأيه الخاص ومحطة توليده للأفكار والمعاني والآراء والمواقف الشخصية، وهو امتياز تهبه اللحظة الالكترونية باعتبارها نتاج مهبات اللحظة الديمقراطية المعولمة.

وبصورة أكثر دقة هي إفراز من إفرازات ما بعد الحداثة التي أعطت صوتاً وحضوراً لكل البشر، بما في ذلك الذين ينتمون إلى القاع الاجتماعي والثقافة الشعبية، بعد أن كانت الثقافة حكرًا على الطبقات الرفيعة التي تمتلك صالونات الترفيه الراقية ومنابر التوجيه، وبالتالي يمكن النظر إلى تلك المنصات الشعبية المتمثلة في الحسابات الشخصية على أساس كونها المعادل للثقافة السريعة النيئة، التي يؤدي فروضها مفكرون صغار يسابقون الزمن.

وعلى هذا الأساس أيضاً يمكن قراءة مفهوم المواطن النشط الذي لا تكتمل شروط حضوره في الزمن إلا من خلال تسلّحه بعدد هائل من الحسابات للتعبير عن رأيه في مختلف القضايا، وأداء وظيفة إعلام المواطن، يساعده على ذلك الأجهزة فائقة الحداثة والذكاء.

والهدف من كل ذلك الحشد في الحسابات رغبته العميقة في تأهيل نفسه كصانع رأي، أي كمنتج لمنظومة من الرسائل المعرفية والفنية والاجتماعية والسياسية التي تؤكد حضوره وفاعليته، وهذا هو ما يفسر تورطه في كل القضايا المطروحة، واستعداده الدائم للتعليق على كل ما يتم تداوله في الفضاء العمومي.

بمعنى تحويل حسابه إلى منصة شخصية لرؤية العالم، والاشتراك في حركة اجتماعية تاريخية إن أمكن، وهذا ما يوقعه في وهم الإحساس بجدارة آرائه وصوابية مواقفه وصفاء ذائقته.

إن أي إطلالة تحليلية على حساب من تلك الحسابات سيكشف بشكل مبدئي عن تمكن النزعة الشعبية من صاحب الحساب، إذ من المحتم أن يكون شعبواني التفكير والتعبير والحضور، لأن هذه السمة من لوازم التواصل مع شرائح عريضة بمقدورها الخوض في كل شيء دون دراية ولا خبرة. ولأن صاحب الحساب لا يمتلك القدرة ولا الرغبة في القراءة العميقة المتواصلة، بقدر ما يمتلك من الحماس واللهاث وراء الأحداث اليومية، يصعب التقاط أي حالة تأملية؛ لأن تتالي القضايا يتطلب منه التعليق النيء الخالي من أي التفاتة تحليلية مقنعة.

بمعنى أنه يقع في خانة الانقياد لا القيادة وصناعة الرأي كما يتوهم، حتى وإن عاش كذبة إبداء الرأي وتشكيل موقف إزاء الأحداث، فهو مجرد معلق ساذج على ما لا يمكنه التأثير فيه.

كذلك يمكن ملاحظة رغبة صاحب الحساب الصريحة، بل الفاقعة لاستظهار فردانيته، وهذه نتيجة وسبب في آن، لأن الفردانية مظهر من مظاهر اللحظة، بل هي مكتسب من المكتسبات البشرية المهمة، لذلك تتصعّد في الحساب مراودات الانقلاب على كل ما هو مجتمعي، وصد كل ما يوحي بالتشابه مع الجماعة، لتأكيد الفرادة ليس في المواقف الكبرى من العالم وحسب، بل حتى في التفاصيل الصغيرة المتعلقة باللباس والمأكل والمزاج.

وكأن «أنا» صاحب الحساب لا تكتسب فرادتها إلا بمخالفة الآخرين، ليس من منطلق الاختلاف معهم وإنما بدافعية مخالفتهم، واختلاق الهوامش التي يمكن لتلك الأنا أن تتحرك فيها خارج أفق التشابه والتطابق، وهنا تظهر المفارقة، إذ بقدر ما تُبدي تلك الذات رغبتها في التواصل والاشتراك والتفاعل مع حسابات الآخرين، تبالغ في اصطناع هوية مغايرة للحساب الذي تتكهف فيه. ذلك التمادي في الشعبوانية والفردانية يؤدي بالضرورة إلى إبداء أكبر قدر من الحميمية، حيث يكشف معظم الحسابات عن حميمية فارطة تنمحي فيها الخطوط بين ما يجب أن يقال ويُرى وما لا ينبغي التصريح به أمام الآخرين لدرجة الاستعراء بكل معانيه الرمزية وتمثيلاته المادية. فهناك سباق محموم وخفي للتأثير على الآخرين من خلال تصعيد البوح وتقشير الذات وما يحيط بها، وهو بعد لا غنى عنه في سباق الحسابات التي تبحث عن متابعين ومصفقين.

فبقدر ما يتجاوز صاحب الحساب الخطوط الحمراء ويطرح الحياء جانباً، بقدر ما يسجل حسابه رصيداً لافتاً عند الآخرين، وهذا هو جوهر الثقافة الحميمية التي تحرك الحسابات، حتى فيما يتعلق بالتدوين متناهي الصغر؛ لذلك عندما يحيلك أي أحد إلى حسابه فإنه يدعوك إلى الارتطام بوعيه ومزاجه لتراه دون توريات ولا احترازات، حيث صارت عبارة «شوف حسابي» بمثابة دعوة تتجاوز دخول البيت إلى اقتحام غرفة النوم الخاصة بالفرد.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
مزهر زاهر
[ القطيف ]: 2 / 3 / 2017م - 4:49 م
مقالك رائع اخي محمد و انا من متابعيك والقراء لك .. لم اعرفك الا شخصيه مثابره .. وقد شرفتنا بشرف كبير من خلال ظهورك في القناه المغربيه حيث لاول مره ارى فيها كاتب من الخليج يطل على برنامج مغاربي بحت ,
ناقد وكاتب