هل حقاً سنبيع أرامكو؟ «8»
لن أخوض في، ما هي قيمة «حوتنا الأزرق»، فهناك من يظن أن حساب قيمة أرامكو هو ببساطة محصلة ضرب ثابت بعدد براميل الاحتياطي! وهناك من يقول: أسرعوا فزمن النفط قد انقضى! لا أتفق معهما، أما الحقيقة فتبقى أن ليس لأرامكو مثيل؛ من حيث قيمتها عالميًا بالتأكيد، لكني قصدت من حيث قيمتها لنا؛ فقد بقيت القاطرة والممول والمحفز لعقود، منذ أن أصبحت صادرات النفط مرتكزًا للمالية العامة، فهي أكثر من مجرد شركة لاستخراج الاحتياطي وتصديره.
جلبت أرامكو السعوديين من القرى والصحاري، واستطاعت أن توظفهم لتنطلق بقدراتهم ومهاراتهم وابداعاتهم. لقد نجحت أرامكو في أمرٍ لم يسبقها إليه أحد، عندما أوجدت مجتمعًا صناعيًا صغيرًا، ووضعت بذلك بذرة، ليس فقط لاستخراج النفط، بل لأن تصبح فكرة العمل لدى الغير مقبولة، وأن تصبح فكرة الالتزام بساعات عمل محددة مقبولة، وأن يتعلم الشخص ويتدرب بلغة أخرى على يد أناسٍ أتوا من بعيد! لا يمكن الاستهانة بهذا الإنجاز، فقد كان أشبه بانقلابٍ اجتماعي - اقتصادي، للخروج من مجتمع زراعي - رعوي إلى المجتمع الصناعي. وليس من المبالغة القول إن أرامكو أنشأت في وسط الصحراء، وعلى تلة الظهران «وقتها، وادي سيليكون» دون وجود جامعاتٍ محيطة، في مكانٍ لم تكن وظيفته أكثر من استضافة المقناص!
أرامكو أكثر من مجرد «أصول» ملموسة، توضع في صحيفة «اكسل» الأصل تلو الآخر، وترص سلاسل تدفقاتها النقدية، ثم تخصم وفق مُعاملٍ معين، وسيناريوهات متعددة. لأرامكو أصل جوهري لم ينتج من تحلل «الديناصورات»، هذا الأصل الجوهري هو المواطن المنتج الذي أثبت أنه الأفضل، فأرامكو لم تكتشف بترولنا فقط، بل اكتشفت أوجها ناصعة للإنسان السعودي لم يعرفها أحدٌ من قبل، وليس أدل على ذلك مما يشخص أمامنا، ليس فقط من ناقلات نفط تغدو وتروح، وليس فقط المصافي ومصانع تنقية وفصل الغاز، وليست فقط آلاف الكيلومترات من الانابيب الممدودة كما الشرايين في طول البلاد وعرضها، ولا حتى الشراكات مع كبريات شركات النفط في العالم في مصافي ومصانع بتروكيماويات، بل أكبر من كل ذلك على الرغم من أهمية ما تقدم من عناصر، فقد كانت أنشطة أرامكو بوتقة تجمعنا كلنا في سياقٍ وطني واحد، وكأنها «مغنطيس» كبير يستقطبنا جميعا لنولد قيمة للوطن وللشركة ولأنفسنا.
ما أهمية كل هذا عند الحديث عن «تقييم» أرامكو؟! في أرامكو قدر هائل من القيمة الكامنة، التي لابد أن تُحسب بعدل أو أن تأخذ فرصتها لتينع، وإلا سنصبح كمن يبيع «الخَلالّ» لمن لا يعرف أنه سيصبح بعد أسابيع «تمرًا». وطلبًا للتحديد، أقول إن أرامكو بدأت مؤخرا استراتيجية التحول إلى شركة طاقة وبتروكيماويات، هذه الاستراتيجية مازالت «خَلال» وستتضاعف - بإذن الله - قيمة «الخلال» عشرات المرات عندما يصبح «تمرًا»، خذ مثلاً المشروع الذي أعلن عنه بالأمس القريب في كوالالمبور، إبان الزيارة الملكية الميمونة لماليزيا، تكلفته 12 مليار دولار، عبارة عن مصفاة قوامها 300 ألف برميل يوميا ومجمع تكسير ومجمع بتروكيماويات، ستبيع أرامكو لها نفطًا، وستحقق من خلالها أهدافا تعزز تنافسيتها في جنوب آسيا، وهي السوق الأهم للنفط والبتروكيماويات السلعية السعودية. كيف سيُقيّم هذا المشروع؟! وكيف سيدخل في الحِسبة؟ لعل من سيُقيّم سينشغل في السنوات الأولى بخصم الاهلاكات أكثر من أي أمرٍ آخر! في سياق آخر، خذ مصفاة جازان بطاقة 400 ألف برميل يوميا وتوابعها بما في ذلك مدينة جازان الاقتصادية، وما قد يتمخض عن ذلك من صناعات بتروكيماوية، خذ مثلاً شراكة أرامكو مع «داو كميكال» في شركة «صدارة»، التي ما برحت تحبو. هذه الأمثلة وسواها كثير عبارة عن «خَلال». القيمة الكامنة في أرامكو هائلة ومتنوعة بالفعل، فليس من المبالغة القول إن بوسع الشركة اقتطاع بعض إداراتها وتحويلها إلى شركات مستقلة، والاحتمال الأرجح أنها ستلاقي نجاحًا كبيرًا نتيجة للتجربة والخبرة والإمكانات، خذ مثلاً نشاط «التزويد والامداد» «الأنشطة اللوجستية»، الخدمات الصحية، خدمات الإسكان، خدمات الطيران، الحلول المتكاملة لإدارة المشاريع! كيف ستقيم هذه؟ سؤالي استنكاري، فالعديد من هذه الأنشطة خدمية للشركة، ولعلها مراكز تكلفة، ولاستخراج قيمتها الكامنة يمكن تحويلها لمراكز ربح، وبذلك يصبح لها مصب إيرادات، وبالتالي تدفقات نقدية يمكن أن يضعها بعض المستشارين في «اكسل» ويخصمها! أما الآن فهذه المشاريع عبارة عن «خَلالّ»، وغيرها كثير.