أما الفن فلا أب له في بلادي!
في السعودية، هناك جدل قديم جديد بشأن الفنّ. شرعيته، ودوره، ورسالته، وحاجة الناس إليه. الجدل بشأنه قديم، ولكنه يتجدد كلما لاحت بادرة لضخ مزيد من الانفتاح في المجتمع.
حين غاب الفنّ بتمثلاته المختلفة، أصبح المجتمع أكثر انغلاقًا، وأكثر تشددًا. وفقد كثير من الناس صورتهم الطبيعية قبل أن تُشكّلها عناصر الإكراه والتوجيه والبرمجة الثقافية. كان الفنّ وسيلة الانفكاك من هيمنة التطرف الفكري، مثلما أنه وسيلة لدمج الناس فوق الفواصل الآيديولوجية، فالفنّ يقّرب الناس من بعضهم، ويمنحهم فضاء مشتركًا يتعايشون فيه.
من حق أهل الفنّ وصانعي الإبداع الفني والمسرحي والسينمائي في المملكة، أن ينالوا التقدير والإعجاب، لأنهم يصنعون الدهشة والنجاح بإمكانيات متواضعة، فالعشرات من الشباب الذين يبدعون في المسرح والسينما يطورون قدراتهم بإمكاناتهم الفردية عبر السفر هنا وهناك، وعبر الإبحار في عالم الإنترنت، من أجل الحصول على الكفاءة المطلوبة لتحقيق إبداعاتهم.
يتعب هؤلاء جدًا أنفسهم، ويبدعون أعمالاً ناجحة ومنافسة وقوية، وتمتلك الوعي والمعرفة، ولديها رسالة وقدرة على التأثير. وهم يحاولون أن يردموا الفجوة المعرفية. هم ليسوا فقط لا يملكون معاهد وأكاديميات أو حاضنات لتنمية مهاراتهم وتعزيز قدراتهم، وصقل مواهبهم، بل لا يملكون حتى مباني صالحة، تضم مسارح، وصالات عرض وتجهيزات لازمة.
تعاني جمعيات الثقافة من شح التمويل اللازم لتدوير حركة المؤسسة وتشغيلها، قبل أن يكون لازمًا لتطوير المنتج الثقافي والإبداعي، واحتضان الموهوبين وتعزيز قدرات المبدعين، والتمويل الضروري لتدريب وتأهيل الشباب في مجالات المسرح وصناعة الأفلام، في التصوير والإخراج والإنتاج، وغيرها.
إذا كانت مخصصات وزارة الثقافة غير كافية، وبالكاد يمكنها بالحدّ الأدنى تشغيل جمعيات الثقافة والفنون، فمن أين يحصل هذا القطاع على التمويل؟
لا ينقص المجتمع المحلي المبادرات الكريمة لدعم النشاط الأدبي والثقافي، لكن حين يصبح الأمر مقترنًا بالفنّ والمسرح والموسيقى، تبدو المسألة بحاجة إلى وعي جديد.
هناك مبادرات سعودية خلاقة في دعم الأدب والثقافة، نذكر من بينها: تبرع أسرة الجبر في الأحساء «مؤسسة عبد العزيز ومحمد وعبد اللطيف أبناء الشيخ حمد الجبر الخيرية» لصالح إنشاء مقر نادي الأحساء الأدبي الثقافي الجديد، بمبلغ ناهز 8.5 مليون ريال. كما تلقى نادي الباحة الأدبي، جنوب السعودية، تبرعًا سخيًا من رجل الأعمال الشيخ سعيد بن علي العنقري الزهراني الذي تبرع بتكملة مشروع النادي على نفقته الخاصة بمبلغ يتجاوز 17 مليون ريال. وفي حائل، تبرع رجل الأعمال الدكتور ناصر بن إبراهيم الرشيد لبناء نادي حائل الأدبي ب23.5 مليون ريال. وفي جدة تبرعت أسرة الشربتلي لبناء نادي جدة الثقافي وتجهيزه بما يزيد على 16 مليون ريال.
أما الفنّ فلا أب له. المبادرات بشأنه قليلة جدًا، ولذلك فسيبقى «عالة» على ميزانية الوزارة حتى وقت طويل. لأننا ما زلنا في بداية الطريق، وما زال هذا النشاط غريبًا في بلادنا، إن لم نقل منبوذًا، وبالتالي سنحتاج إلى وقت طويل قبل أن يحظى هذا القطاع بالقدرة على الاستقلال المالي، أو الحصول على رعاية مجتمعية من خلال التبرع أو الوقف الخيري.
الحديث عن الثقافة والفنّ لم يَعُد ترفًا، باعتبارهما ضرورتين لتكوين الوعي، وصناعة البهجة وخلق مجتمع سعيد. وما لم يتم تفعيل دور الثقافة والفنون، ودعم الجمعيات المسؤولة عن هذا القطاع، سنبقى نتساءل دون جواب: أين يذهب الشاب هذا المساء..؟ إذا لم يجد وسائل الترفيه الممتع، ومراكز الثقافة، وصالات العروض الفنية والتشكيلية والمسرحية والاستعراضية.