فوائد العودة إلى المربع الأول!
هل يحقق البطء في حل الأزمات مكاسب لبعضهم فيحرصون على بقاء الحال على ما هي عليه؟ المستفيد من الصراع، مثلا، ليس كمن يكتوي بناره. فهل خطرت هذه الفكرة على بال زهير بن أبي سلمى حين وصف الوجه الكالح القبيح للحرب في معلقته الشهيرة، أم أن دوافع الحروب وظروفها قد تغيرت؟
قد تُفرض الحرب على من لا يريدها، أو لم «يكن من جُنَاتها» كما يعبر الحارث بن عباد، فيُصْلَى بنارها الأبرياء. تطحنهم وتُرمّلهم وتُيتّمهم، وتسبب لهم عاهات دائمة، أو تدفنهم بين الأنقاض، أو تتركهم للتشرد والعراء والمرض والجوع. لذلك يقول يوليسيس جرانت القائد العام لجيش الولايات المتحدة الأمريكية ثم الرئيس الأمريكي الثامن عشر: «لم أدافع عن الحرب يوما إلا باعتبارها وسيلة للسلام»، في إشارة منه للحرب الأهلية التي خاضها دفاعا عن وحدة الولايات المتحدة الأمريكية. نعم، لا يوجد عنف مبرر إلا عنف الضرورة المتمثل في الدفاع عن النفس أو حمايتها من الهلاك. أما المحزن في أي صراع فهو مقتل إنسان لا علاقة له بالأمر.
غير أن أول من تزعجه وصايا الحكماء ودعاة السلام والحب هم تجار الحروب الذين يحولون الصراعات الدامية ومعاناة الناس وبؤسهم إلى ثروات طائلة. كلما اتسعت بؤر التوتر ازدهرت تجارتهم ونمت، في حين يؤدي السلام إلى تقلص صفقات بيع السلاح وخسارة تريليونات الدولارات. فهل لهؤلاء دور خفي في إذكاء النزاعات في العالم؟ ربما.
المستفيدون من تلك الفوضى كثيرون، لكن لا وجه للمقارنة بين ما يجنيه تجار الحروب والمكاسب المتواضعة لرجل الميليشيا الذي يتقلد الكلاشينكوف مرابطا عند ما يسمى «نقاط السيطرة»، إلا أن هذا الأخير أيضا قد يشعر بالفراغ والوحشة إذا ما وضعت الحرب الأهلية أوزارها. فقد لا يجد له موقعا على ذلك الجانب من الأهمية سوى في معمعة تلك الفوضى والظروف المضطربة. فإذا ساد السلام فقد سلطته وأهميته وراتبه. وقد يصبح، إن لم يتم دمجه في المؤسسة العسكرية، عاطلا عن العمل. أو يصبح، في أحسن الأحوال، بائع خضار متجولا. فهو لا يحمل مؤهلا غير هذا المؤهل الناري الذي بين يديه. الكلاشينكوف والإصبع على الزناد هو مؤهله الوحيد، وهنا تكمن الخطورة.
أعود فأذكّر بالسؤال السابق: هل يحقق البطء في حل الأزمات مكاسب لبعضهم فيحرصون على بقاء الحال على ما هي عليه؟ أطرحه مرة أخرى لأن هذا هو لسان حال بعض السادة المتأنقين المهندمين، حتى لو لم يقولوا ذلك بصراحة ووضوح. وأعني بالمهندم عضو لجنة التفاوض، ذلك الذي يحمل حقيبة أنيقة، ويستقبل في صالات ال «VIP»، ويتنقل بين العواصم العالمية الجميلة وفنادقها الفخمة، ليشارك في المفاوضات الرامية إلى حل النزاع. لا يستطيع أحد أن ينكر جهود السيد المهندم، فهو يعمل متنقلا من جهة إلى أخرى، يشارك في الاجتماعات، ويصغي ويناقش، ويدون الملاحظات، ويعد التقارير، ويجري الاتصالات، ويعقد المؤتمرات الصحفية، لكن «يده في الماء» حسب التعبير الشعبي الشائع. وقلقه لا يساوي قلق الذي يتجرع مرارة الحرب. فهل يفسر هذا تصلب المواقف والآراء، وتعثر المفاوضات، والعودة بها إلى المربع الأول؟ ربما.
يخيل إلي أحيانا أن المشكلة لدى بعض أولئك المهندمين هي صعوبة اختيار ربطة العنق المناسبة. ومع أنه لا يصح تعميم هذا الاستنتاج على الجميع، إلا أن هذا هو النموذج الذي عناه جورج أرويل مؤلف رواية «مزرعة الحيوان» بقوله: «كل دعاية للحروب.. وكل الصراخ والتحريض عليها يأتي من أناس لا يقاتلون». ومن البديهي أن لا يكون للجانب الإنساني أي اعتبار لدى أولئك المحرضين على الاقتتال.
وحدهم الذين يتجرعون مرارة الحروب وويلاتها ينتظرون بلهفة أن تنتهي الحرب ويعم السلام؛ ذلك النازح عن بيته الذي يسكن إحدى خيام الإيواء، ويواجه حرّ الصيف وقرّ الشتاء، ويعاني عذاب الشتات والانتظار. ومثله ذلك الذي لم يغادر منزله مخاطراً بحياته ومتحملا شظف العيش وانقطاع الماء والكهرباء وسوء أو توقف الخدمات الصحية، وشح المواد الغذائية، هؤلاء وغيرهم من المتضررين هم الذين ينشدون السلام بصدق. وهم الذين يعرفون أكثر من سواهم مدى بشاعة تلك الحماقة البشرية التي تعيد إلى الذاكرة نشيد الغابة البدائية الموحش، ومن ثم فهم الذين يفقهون جيدا معنى قول زهير بن أبي سلمى: «مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً/ وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ»! إلا أنه لا مكان للحالمين كابن أبي سلمى في معمعة تلك الفوضى.